Pages

مفهوم التنمية المستدامة


يبدو أن التنمية المستدامة هي التي تصيغ اليوم الجزء الأكبر من السياسة البيئية المعاصرة وقد كان للعمومية التي اتصف بها المفهوم دورا في جعله شعارا شائعا وبراقا مما جعل كل الحكومات تقريبا تتبنى التنمية المستدامة كأجندة سياسية حتى لو عكست تلك الأجندات التزامات سياسية مختلفة جدا تجاه الاستدامة، حيث تم استخدام المبدأ لدعم وجهات نظر متناقضة كليا حيال قضايا بيئية مثل التغير المناخي والتدهور البيئي اعتمادا على زاوية التفسير، فالاستدامة يمكن أن تعني أشياء مختلفة، بل متناقضة أحيانا، للاقتصاديين، وأنصار البيئة، والمحامين، والفلاسفة. ولذا يبدو أن التوافق بين وجهات النظر تلك بعيد المنال.

كذلك وبالنظر إلى أن إنجاز التنمية المستدامة يتطلب أمرا من اثنين، إما تقليص حجم طلب المجتمع على موارد الأرض و/ أو زيادة حجم الموارد حتى يمكن على الأقل تجسير الفجوة بين العرض والطلب إلى حد ما، فإن هذه العملية الهادفة إلى التوحيد التدريجي للمطلوب من الموارد والمعروض منها – الجوانب المتجددة وغير المتجددة من الحياة الإنسانية- هي التي تحدد ما المقصود بعملية التنمية المستدامة. ولكن كيف يمكن الدمج بين المطالب والموارد؟ إن هذا السؤال أو على وجه التحديد الإجابات على هذا السؤال هي التي تنتج معاني وتعريفات متنوعة ومتنافسة للتنمية المستدامة، وذلك لان مسألة كيفية دمج المطالب والموارد يمكن أن يجاب عليها بعدة وسائل مختلفة، وذلك تبعا لاختلاف رؤى أطياف الفكر البيئي حيث هناك من جهة كتّاب يحاولون تعديل جانب الموارد من العلاقة بينما يقف في الجهة الأخرى كتاب يركزون على تغيير جانب الطلب.

ولذلك فبرغم الالتزام الدولي تجاه التنمية المستدامة وبرغم أنها قد تبدو للوهلة الأولى واضحة إلا أنها قد عرفت وفهمت وطبقت بطرق مختلفة جدا، مما تسبب في درجة عالية من الغموض حول معنى المفهوم الذي يعتبر من المفاهيم الصعبة، والمراوغة، والمخادعة. ويشار في هذا السياق إلى أن (Fowke & Prasad 1996: 61-6) قد أوردا أكثر من ثمانين تعريفا مختلفا وفي الغالب متنافسا وأحيانا متناقضا للمفهوم. وتكمن مشكلة مفهوم التنمية المستدامة في أنه يتأثر بعلاقات القوة بين الدول وداخلها وهذه الحقيقة تتطلب مراجعة نقدية للمفهوم. فمن الواضح أن علاقات القوة هي التي تصيغ المعاني واللغة التي يستخدمها الناس.

ولكن إذا نظرنا إلى الحد الأدنى من المعايير المشتركة للتعريفات والتفسيرات المختلفة للتنمية المستدامة يمكننا أن نتعرف على أربع خصائص رئيسة(Grosskurth & Rotmans, 2005: 135-150). يشير أولها إلى أن التنمية المستدامة تمثل ظاهرة عبر جيلية، أي أنها عملية تحويل من جيل إلى أخر. وهذا يعني أن التنمية المستدامة لابد أن تحدث عبر فترة زمنية لا تقل عن جيلين، ومن ثم فإن الزمن الكافي للتنمية المستدامة يتراوح بين 25 إلى 50 سنة.

وتتمثل الخاصية المشتركة الثانية في مستوى القياس. فالتنمية المستدامة هي عملية تحدث في مستويات عدة تتفاوت ( عالمي، إقليمي، محلي).ومع ذلك فإن ما يعتبر مستداما على المستوى القومي ليس بالضرورة أن يكون كذلك على المستوى العالمي. ويعود هذا التناقض الجغرافي إلى آليات التحويل والتي من خلالها تنتقل النتائج السلبية لبلد أو منطقة معينة إلى بلدان أو مناطق أخرى.

وتعد المجالات المتعددة خاصية ثالثة مشتركة حيث تتكون التنمية المستدامة من ثلاثة مجالات على الأقل: اقتصادية، وبيئية، واجتماعية ثقافية. ومع أنه يمكن تعريف التنمية المستدامة وفقا لكل مجال من تلك المجالات منفردا، إلا أن أهمية المفهوم تكمن تحديدا في العلاقات المتداخلة بين تلك المجالات. فالتنمية الاجتماعية المستدامة تهدف إلى التأثير على تطور الناس والمجتمعات بطريقة تضمن من خلالها تحقيق العدالة وتحسين ظروف المعيشة والصحة. أما في التنمية البيئية المستدامة فيكون الهدف الأساس هو حماية الأنساق الطبيعية والمحافظة على الموارد الطبيعية. أما محور اهتمام التنمية الاقتصادية المستدامة فيتمثل في تطوير البنى الاقتصادية فضلا عن الإدارة الكفؤة للموارد الطبيعية والاجتماعية.

والقضية هنا أن تلك المجالات الثلاثة للتنمية المستدامة تبدو نظريا منسجمة لكنها ليست كذلك في الواقع الممارس. كذلك فإن المبادئ الأساسية هي الأخرى مختلفة فبينما تمثل الكفاءة المبدأ الرئيس في التنمية الاقتصادية المستدامة تعتبر العدالة محور التنمية الاجتماعية المستدامة، أما التنمية البيئية المستدامة فتؤكد على المرونة أو القدرة الاحتمالية للأرض على تجديد مواردها.

وتتعلق رابع خاصية مشتركة بالتفسيرات المتعددة للتنمية المستدامة. فمع أن كل تعريف يؤكد على تقدير للاحتياجات الإنسانية الحالية والمستقبلية وكيفية الإيفاء بها، إلا انه في الحقيقة لا يمكن لأي تقدير لتلك الاحتياجات أن يكون موضوعيا، فضلا عن أن أية محاولة ستكون محاطة بعدم التيقن. ونتيجة لذلك فإن التنمية المستدامة يمكن تفسيرها وتطبيقها وفقا لمنظورات مختلفة (Grosskurth & Rotmans, 2005: 135-150).

ومن أهم تلك التعريفات وأوسعها انتشارا ذلك الوارد في تقرير بروندتلاند (نشر من قبل اللجنة عبر الحكومية التي أنشأتها الأمم المتحدة في أواسط الثمانينات من القرن العشرين بزعامة جروهارلن بروندتلاند لتقديم تقرير عن القضايا البيئية)، والذي عرف التنمية المستدامة على أنها "التنمية التي تلبي احتياجات الجيل الحاضر دون التضحية أو الإضرار بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها" (WCED 1987: 8,43). ويزعم كل من McNaghten and Urry أنه:

منذ قمة ريو أصبحت التعريفات العملية للاستدامة مقبولة على نطاق واسع من قبل الحكومات، والمنظمات غير الحكومية NGOs وقطاع الأعمال. ويبدو أن تلك التعريفات قد عدت من قبيل العيش ضمن نطاق القيود المحدودة للأرض، والإيفاء بالاحتياجات دون الإضرار بقدرة الأجيال القادمة للإيفاء باحتياجاتها، وتكامل البيئة والتنمية (McNaghten & Urry 1998: 215).



ومع أن هناك شبه إجماع نظري بأن المساواة (سواء بين أفراد الجيل الحالي من جهة أو بين الأجيال المختلفة من جهة أخرى) تعتبر عنصرا أساسيا للمفهوم إلا أن مضمون تلك المساواة لا يزال غامضا.

وبينما يصف تعريف بروندتلاند بغموض شديد الإجماع العام حول تعريف الاستدامة، إلا أن هناك جدلا واسعا حول وسائل ضمان استقرار الأجيال القادمة. فالتفسيرات المتعلقة بكيفية تنفيذ "التنمية المستدامة" تتباين ما بين تلك التي تتبنى التركيز الضيق على الاقتصاد أو الإنتاج إلى تلك التي تدعو إلى استيعاب واسع للثقافة والبيئة فضلا عن أن هذا التعريف قد أعتبر منحازا إلى نموذج إرشادي تنموي محدد (يتمركز حول الإنسان) ولذلك رفض وانتقد من قبل كثير من الكتّاب.

فقد نظر عدد من المفكرين إلى إعلان ريو الذي تبنى ذلك التعريف بريبة وشك. ويتمثل مصدر القلق الرئيس لديهم في أن الهدف الأساس الذي يرمز للمفهوم – أي معالجة الاستغلال المؤذي بيئيا للموارد الطبيعية- كان غائبا في مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية UNCED. ويرى بالميرتس Pallmearts أن ذلك الغياب المقصود قد "مثل خطوة مقّنعة ذكية للوراء عن الجهود البيئية الدولية"(Pallmearts 1992:256). وتركز الانتقاد بشكل رئيس على جانبين: أولا أن إضافة كلمة "والتنمية" في صياغة المبدأ الثاني من إعلان ريو قد تسببت في تهميش السياسات التنموية. وثانيا: أن وضع كلمة "الإنسانية" في قلب الاهتمام بالتنمية المستدامة في المبدأ 1 في إعلان ريو يجعل العناصر البيئية، والموارد، والكائنات الحية خاضعة لهيمنة الإنسان، مما يفسد التوازن الدقيق الذي تم التوصل إليه في مؤتمر استوكهولم بين حق استخدام الموارد الطبيعية والمسئولية عن حماية البيئة(Ibid).

ولكي نمسك بزمام نطاق التعريفات المتنوعة والمتنافسة للتنمية المستدامة فمن الضروري وقبل كل شيء أن نعترف بأن نقطة البداية لكثير من أدبيات التنمية المستدامة – ولو أنها في الغالب ضمنية بدلا من أن تكون صريحة – تتمثل في ما يطلق عليه "التناقض البيئي Environmental Paradoxy، لأن هذا يعني بالنسبة لجميع المهتمين بالتنمية المستدامة تقريبا أن هناك تناقض بين ما هو مطلوب من الأرض وبين ما يمكن للأرض أن تقدمه.

كذلك لكي نطور مفهوما متفقا عليه للتنمية المستدامة فإنه يجب أن يكون هناك فهما مشتركا للشيء المراد استدامته. كما لاحظنا في هذه الدراسة فإن للمفهوم جوهرا متمركزا حول الإنسان بشكل مهيمن في أدبيات التنمية المستدامة حيث كان التركيز على استدامة المجتمع الإنساني على الأرض. لكن أي مجتمع إنساني؟ والإجابة طبقا لتقرير بروندتلاند تعني ذلك المجتمع الإنساني القادر على الإيفاء باحتياجاته، إلا أن تلك الاحتياجات يمكن أن تفهم بطرق مختلفة.

ومن ثم يمكن القول أن المشكلة الأكثر وضوحا في هذا المجال تتمثل في التنامي المفرط للنشاطات الإنسانية لاستغلال موارد الطبيعة في مقابل القدرة المحدودة للأنساق الحيوية الطبيعية للإيفاء بتلك النشاطات. ولذا فإن أحد أفضل التعريفات العملية الملائمة "للاستدامة" يمكن أن تتمثل في "تحقيق الحد الأعلى من الكفاءة الاقتصادية للنشاط الإنساني ضمن حدود ما هو متاح من الموارد المتجددة وقدرة الأنساق الحيوية الطبيعية على استيعابه" مع ربطها باحتياجات الجيل الحالي والأجيال القادمة، بشرط أن تكون تلك الاحتياجات مما لا يلحق تهديدا جديا بالعمليات الطبيعية، والمادية، والكيميائية، والحيوية. أي أن هناك قيدا مزدوجا على التنمية المستدامة: يرتبط جانب منه بأداء العمليات الطبيعية، أما الآخر فيتعلق بالإيفاء بالاحتياجات الموضوعية، فضلا عن الاحتياجات الإنسانية الحالية والمستقبلية كلما كان ذلك ممكنا. ولتحقيق هذا الأمر فإنه لابد من العمل على تعظيم إنتاجية الموارد من جهة وتقليص العبء الذي تتحمله البيئة (سواء من حيث الموارد أو الطاقة) من جهة أخرى.

وانسجاما مع هذا التعريف ينبغي التأكيد عند معالجة المشكلة البيئية على ثلاثة أنواع من التوازن في هذا المجال وهي:

- التوازن بين المناطق وخاصة بين الشمال والجنوب

- التوازن بين الكائنات الحية

- التوازن بين الأجيال

وهذا يعني ضمنيا العمل على تقييد النشاطات الإنسانية ضمن نظام محدد بعناية يمكن من خلاله التحقق من عدم فرض أي أعباء إضافية على النسق الحيوي للأرض أو الأجيال القادمة. إذن فإن ما ينبغي العمل على استدامته هو ذلك الوضع المتوازن عالميا بين احتياجات الإنسان واحتياجات الطبيعة، حيث يجب الإيفاء بمعظم احتياجات الطبيعة لأن تحقيقها يعتبر أمرا حاسما للبشر.

وأخيرا ينبغي الإشارة إلى أن الجدل الدولي حول مفهوم التنمية المستدامة قد خلق بالتأكيد مجالا جديدا من الخطاب كما أن معناه الواسع والغامض قد سمح لجماعات مختلفة للسعي لتحقيق مصالحها بطرق جديدة وحجج مختلفة. وبينما يمكن النظر إلى تلك الظاهرة كمؤشر إيجابي في إبراز قضية التنمية المستدامة لتحتل الصدارة في النقاش العام، إلا أنه يجب أيضا ألا نغفل المخاطر المرتبطة بها. فمع أنه قد لا يكون ممكنا أو حتى محبذا حصر مفهوم التنمية المستدامة في تعريف محدد، إلا أن الخطابات السياسية حول كيفية الربط بين القضايا البيئية والاقتصادية والاجتماعية قد تسببت، وستستمر، في إحداث خلافات سياسية وتنافس حول التعريف الأفضل. وبرغم أن تعدد وتشتت التفسيرات ووجهات النظر يمكن أن تسمح بالمرونة إلا أنه يخشى أن يصبح مبدأ الاستدامة عديم المعنى، وليس أكثر من مجرد عبارة في البلاغة السياسية.