Pages

العشق و عواطفه 


لم يؤثر في اعماق النفس البشرية من عاطفة انسانية كعاطفة العشق. فقد تشتد حتى تصل بصاحبه الى الانتحار. او قد تبلغ الغيرة فيه، وهي وجهة اخرى من وجهات العشق الى ان تدفعه الى ارتكاب جرية في سبيل معشوقه. وليس بين العواطف ماهو اكثر تعقيدا من العشق. ففيه نرى الانانية في اوسع صورها, مثلما نرى روح الامتلاك في ابشع حالة، حتى ليظن العاشق ان محبوبته هي ملكا صرفا له يتصرف به كيفما يشاء. كما نرى الايثار والتضحية تصل حدا بحيث يعد المحب نفسه خادما لمحبوبته. يضحي في سبيلها كل غال ونفيس.



والمتتبع لتطور العشق في الحيوان يرى فيه مثل مايراه في تطور الانسان كيف ابتدأ من ظهور الحواس البسيطة الى ان انتهى بهذه المعاني المركبة التي نسميها العقل. وهي التي ترتفع احيانا حتى تكاد تفشل اية محاولة لتحليلها. وكذلك الحال في العشق, نرى فيه من معاني الاثرة والايثار ومن ادراك صور الجمال والقبح ما يصعب علينا رده الى تلك الظاهرة الجنسية البسيطة التي نراها في احط الاحياء.



فالحيوان والنبات لم يكونا قبل مئات الملايين من السنين، في بدأ ظهورهما انثى وذكر، انما ظهر الجنسان بعد حقبة طويلة جدا من الزمن. ولكن التلاقح لم يكن يحصل بأتصال الجنسين, وانما كان الذكر يفرز خلاياه التناسلية في الماء مباشرة فتلتقي عن طريق الصدفة بالبيض الذي فرزته الانثى ويحصل التلاقح . وفي مثل هذه الحالة لم يكن ثمة مجال للعشق او الاحساس بوجوده .



وهناك بعض الحيوانات كالحلزون والسرطان يحتوي كل منهما , كما يحتوي بعض النباتات كالذرة والقطن على خلايا الذكر وبيوض الانثى التناسلية مجتمعة. وهنا ايضا ليس مجال للعشق او الحديث عنه، . وانما تبدو بوادره عند اتصال الجنسين، وعندما يبحث كل منهما عن الاخر. فهنا تبدأ معاني الجاذبية و الجمال، ترتقي متساوقة مع معاني العشق.



ومن هنا يلاحظ القارئ الكريم ان حقيقة الجمال تتطور مع تطور الاحياء. فنحن نتحسس صفات الجمال بجميع حواسنا، خاصة حاسة السمع والبصر. لا كما يتحسسها الكلب الذي يستند الى ما تلهمه اليه خياشيمه عند بحثه عن الانثى. وهذا القول يصح ايضا عن الحشرات والحيوانات الدنيا او بعضها, لان الاحساس بالجمال يرجع اصله الى عاطفة العشق مهما تجرد هذا الاحساس لدى الكائن الحي. فقد يكون سبيله الى الادراك الفعلي حاسة البصر او حاسة السمع او الخياشيم او حتى الجلد وحده . فنحن على قلة اعتمادنا على حاستي اللمس والشم لا يمكننا ان نستجمل امرأة مهما تكن حسناء، لو كانت خشنة الملمس او كريهة الرائحة.



والغريزة الجنسية لدى الكائن الحي، اصلُ الاشياء, فهي اصل الصوت الذي لم ينشأ الاّ لأهتداء الانثى الى الذكر او بالعكس. وهي على ذلك اصل اللغة والغناء, وهي اصل روائح المسك والزباد في الغزال والقط . ثم هي فوق ذلك كله اصل تكوين العائلة البشرية.



فإذا نظرنا الى علم الاحياء, وجدنا ان بذرة الجمال وما يربطه بالعشق حقيقة ظاهرة ملموسة. فطيور الذكر مثلا لا تتطوس للآنثى ولا تعرض عليها محاسن جسمها ورشاقة حركاتها ورونق ريشها وحلو اصواتها وجمال طلعتها الا وقت التلاقح. وهي اكثر ما تغني وتنشد في هذا الوقت بالذات. مما نفهم منه ان جمال الريش والصوت انما خلقا الحاقا بالغريزة الجنسية. وهذا ثابت في اكثر الطيور بدليل ان ريشها يضمحل وصوتها يخبو تدريجيا حتى ينقطع، عقب اخصائها.



واوجه الشبه بين عشق الانسان وعشق الحيوان كثيرة , حتى ما يخرج منها عن المألوف ويشذ عن الطبيعة فمن الناس من يقتصر على امرأة واحدة في الزواج, ومنهم من يتزوج اكثر من امرأة. وكذلك الحال في عالم الحيوان، فالكركدن وقرد الاورنج اوتان كلاهما لا يتزوج الا واحدة مدى حياته. وارقى الوان العشق واغربها نجدها في اللبونات والطيور, اقرب الاحياء الينا في سلم التطور. ( طبقا لنظرية داروين ) فهنا نجد مثلا جوهر صفة الوفاء يتجلى في بعض انواع الطيور، فيموت الطير الذكر أسى وغمّا , اذا اخذت منه زوجته.



ومن غرائب الطبيعة ان نلمس احيانا اثارا الشذوذ الجنسي في الطيور . ففي وقت التلاقح نرى الانثى المستذكرة انها تقفز بعد ان تتم عملية التلاقح الى ظهر الذكر, وتبقى واقفة عليه برهة كأن التعارف الجنسي لا يتم الا بذلك.

وكذلك تختلف عواطف الرجل والمرأة في العشق. ولكن هناك ايضا كثيرا من المشابهة بينهما. بدليل ان بعض الصفات الجنسية تنتقل من المرأة الى الرجل وبالعكس. ففي صدر الرجل الثدي الذي يشبه ثدي المرأة. وفي المرأة ينبت الشاربان احيانا. وبديهي ان هذه الصفات المتعلقة بالجنس لا تظهر الا ووراءها صفات ذهنية عصبية. وعلى هذا يمكننا القول ان في كل رجل شيئا من الاستئناث وفي كل امرأة شيئا من الاستذكار .



ولكن هناك وجوها عامة للخلاف في عشق الرجل وعشق المرأة . فالمرأة تستحسن من الرجال على وجه العموم الرجل الطويل. والبنية القوية. والصحة الجيدة. والرجل يحب من النساء، المرأة الهيفاء والبطن الضامر والخصر النحيف والملامح المتناسقة.



هذا بشكل عام, بحيث يشترك البشر من جميع الاجناس في العالم في معايير معينة طبقا لمزاجها و بيئتها وظروفها الاجتماعية الخاصة بها, تتباهى بها وتبدي حبها واعجابها لها عبر اقامة حفلات طرب بهدف اذكاء جمال المرأة وتضخيم مشاعرهم نحوها.

ولو شاء القارئ الكريم ان يستوضح الموضوع اكثر، عليه ان يقرأ ما كتبه الشاعر الفذ نزار قباني بهذا الخصوص:



سؤآل الى الله

------------

ياإلهي !

ما يسمى ذلك الحبُ الذي ظل دهورا ودهورا - يختفي الطاغي ويُفنى الظالمينا –

ويُذّلُ الأقوياء القادرينا – ويذيب البسطاء الطيبينا –

كيف يغدو شَعرُ من نهوى سريرا من ذهب ؟ - وفم المحبوب خمرا وعنب –

كيف نمشي وسط النار – ونلتذّ بألوان اللهب ؟ - كيف نغدو .. عندما نعشق ..

اسرى، بعدما كنا ملوكا فاتحينا.



يا إلهي !

ما نسمي ذلك الحب الذي يدخل كالسكين فينا – أنسميه صداعا ؟ - ام نسميه جنونا ؟ كيف يغدو الكون في ثانية – واحة خضراء .. او ركنا حنونا - حين نغدو عاشقينا.



يا إلهي !

ما الذي يحدث في منطقتنا ؟ - ما الذي يحدث فينا ؟ كيف تغدو لحظة الشوق سنينا – ويصير الوهم في الحب يقينا – كيف تختل اسابيع السنة ؟ كيف يلغى الحب كل الأزمنة ؟ - فيصير الصيف يأتي في الشتاء – ويصير الورد ينمو في بساتين السماء – حين نغدو عاشقينا

.