Pages

النهضة وشروطها!

في كتابه الذي يحمل عنوان الفتوحات الإسلامية في فرنسا و إيطاليّا وسويسرا في القرن الثامن والتاسع عشر الميلادي كتب الكاتب الفرنسي جوزيف رينو :

بأنّه لو قدرّ لموسى بن نصير ولطارق بن زيّاد ولعبد الرحمان الثالث أن يعودوا إلى الحياة لإندهشوا لتغيّر ميزان القوة بين المسلمين والمسيحيين . هذا الكلام لجوزيف رينو يشخصّ الحالة الراهنة التي عليها العالم الإسلامي حيث بعد المسافة بين المليار و المائتين ألف مسلما و المشروع النهضوي الذي تتحدّث عن تفاصيله النخب العربية و الإسلامية منذ أزيد من مائة سنة .

و السؤال الرئيس الذي يمكن طرحه في هذا السيّاق هو لماذا تأخرّ المسلمون في تحقيق نهضتهم رغم أنّهم يملكون ثروة فكرية و ثروة طبيعية لم تجتمع لكثير من الأمم التي نجحت في إطلاق نهضتها و مكنتّ الأجيال الراهنة من الإستفادة من عطاءاتها .

و هذا الإخفاق الحضاري يملي علينا ضرورة إجراء مراجعة دقيقة و متجذرّة للأسباب الموضوعية التي حالت دون تحقيقنا للنهضة و العوائق التي حالت بيننا و بين المشروع النهضوي .

مبدئيّا تجب الإشارة إلى أنّ الأفكار النهضوية التي طرحت من قبل روّاد الإصلاح في العالمين العربي والإسلامي كانت متنوعة ومتشعبّة ومتعددة وقطرية في بعض الأحيان , و معظم هذه الأفكار كانت نتيجة مجهودات فرديّة ورؤى ذاتية لأشخاص غيارى على مستقبل العالم الإسلامي , وهذا التباعد الجغرافي و الذاتي والمعرفي بين هذه الأفكار هو الذي أدّى إلى عدم إنبثاق مشروع نهضوي متكامل يأخذ بعين الإعتبار الجغرافيا الإسلامية بكل إمتداداتها .

بالإضافة إلى ذلك فإنّ العالم الإسلامي كان يفتقد ولا يزال إلى يومنا هذا إلى مؤسسّة تضمّ كل القادرين على تشخيص معضلات العالم الإسلامي و سبل تطويقها ورسم آليات النهضة إنطلاقا من قدراتنا الذاتية ومواردنا الطبيعية , و لو أنّ مثل هذه المؤسسة وجدت في العالم الإسلامي لأمكن صياغة مشروع نهضوي جماعي للعالم الإسلامي وخصوصا إذا ضمّت هذه المؤسسّة كل القادرين على إبداع الرؤية السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية والثقافية و الأمنية و الفقهيّة الحضارية بشكل عام على أن تكون كل تلكم الرؤى والمسارات النهضوية ضمن الموروث الإسلامي أو الثوابت الشرعية التي وضعها المشرّع من أجل صالح الإنسانيّة و رخاء البشريّة .

و تظافر جهود مبدعي الرؤى النهضوية من مختلف المواقع الجغرافية الإسلامية كفيل بإنتاج رؤى نهضوية واقعية , فمبدع النهضة من باكستان يعرف خصائص باكستان و مقوماتها و مقدرّاتها وثرواتها , وعندما يلتقي هذا الأخير بالجزائري فإنّ الجزائري قد يحتاج إلى ما يكمّل رؤيته النهضوية ببعض الرؤى التي لدى المبدع الباكستاني , وهذا الأخير قد يأخذ من الجزائري ما به يتممّ مشروعه ..

ومن خلال هذه المتوالية الفكرية و النهضوية ستأخذ أجزاء العالم الإسلامي حاجياتها من الأجزاء الأخرى وضمن دائرة العالم الإسلامي و بهذه الطريقة نحققّ أمرين مهمين أولهما التكامل السياسي و الإقتصادي بين دول العالم الإسلامي , و ثانيهما القضاء على التبعيّة المطلقة للغرب والتي أصبحت قيدا للعالم الإسلامي و تحكما في ثرواته وحتى في مساره السياسي .

فالأراضي السودانية في حال إصلاحها و تنمية تربتها قادرة على إطعام العالم الإسلامي و العالم الثالث لكن ذلك لن يتحقق بدون الأيدي العاملة المصرية و المال الخليجي , والأراضي الجزائرية قادرة على تزويد العالم الإسلامي بكل المنتوجات الزراعية و خصوصا الفواكه شرط تخلي الحكومة عن ملكيتها المطلقة لعشرات الآلاف من الهكتارات ومنحها للشباب الباحث عن عمل , وبدل أن تستورد الدول الإسلامية غير النفطية النفط والغاز من الشركات الأمريكية والأوروبية التي تشتريهما بدورها من الدول الخليجية وتبيعها بأضعاف ثمنهما إلى الدول المسلمة المستضعفة فيمكن أن تستورد هذه الطاقة من الدول النفطية و بتسهيلات و أثمان مقبولة .

لقد سنحت سنيّ التعليم العالي في البلاد العربية والإسلامية ورغم بعض الثغرات هنا وهناك من تخريج كمّ هائل من الباحثين و المكتشفين الذين يمكن أن يساهموا في صناعة النهضة ضمن الدائرة الإسلامية , كما يمكن إعادة إسترجاع كل العقول العربية و الإسلامية المهاجرة وهي مستعدة للرجوع إلى الجغرافيا العربية و الإسلامية إذا توفرّ لها الشرط الأساس للإبداع وهو الحريّة , و حسب ويل ديورانت صاحب كتاب قصّة الحضارة فإنّ الأمم الخائفة لا تصنع حضارة .

ويجب أن يسبق كل ذلك قرار سياسي واضح بضرورة النهوض و إزالة كافة الخلافات السياسية و الحدودية بين الدول الإسلامية والتي أرهقت كاهل العلاقات الإسلامية – الإسلامية و حالت دون تلاقي المبدعين بسبب الخلافات السياسية بين هذه الدولة وتلك . و بعد هذا القرار السياسي يجب أن يكون هناك قرار وطني و شعبي بضرورة الإرتقاء إلى مستوى صناعة الدور النهضوي والفعل الحضاري لأنّه و بدون ذلك سنظل عبئا على الأمم الأخرى نتفرج على تحقيقها السبق الحضاري تلو السبق الحضاري , و نحن ندفع من قوت أجيالنا لشراء منتجات هذا السبق دون تحقيقة و صناعته , و من هنا نبدأ .

و تقاس الديناميكيّة النهضويّة والتنمويّة و الملامح المستقبليّة في أي حقل جغرافي يقطنه مجموعة بشريّة بالإستراتيجيّة المتبعة والتي وضعها مجموعة من الناس لديهم قدرة خارقة على صناعة القيمومة الحضارية ومن شروط نجاح هذه الإستراتيجيّة و فعاليتها توافق هذه الإستراتيجيّة مع التركيبة الإجتماعيّة والخصائص الثقافيّة لهذه المجموعة البشريّة أو تلك . وبهذا المنطلق نضمن أن تكون الإستراتيجية منسجمة مع الواقع الإجتماعي ومستوعبة له وفي الأغلب موجهّة له بإتجاه الأهداف الكبرى المرسومة وبدون ذلك تكون الإستراتيجيا مجرد يوتيبيا لا وجود لها إلا في بعض النتاجات الأدبية والفكرية وهي كثيرة إلى أبعد حدّ في التراث البشري .

لكن هل نملك نحن في واقعنا العربي والإسلامي والثالثي إستراتيجيّة حتى نضع أنفسنا ها هنا في موضع المقارنة مع الآخر الذي نعني به الكتلة الغربيّة على وجه التحديد !

ولماذا يستمر الفكر العربي وحتى الإسلامي ويسترسل في التركيز دائما على الثنائيات من قبيل الأصالة والمعاصرة , النقل والعقل , النص والإجتهاد , التعريب والتغريب , السلفيّة والتنوير , الإسلام والعروبة , ووصولا إلى استراتيجيتنا واستراتيجيتهم أي نحن والأخر ! ألسنا في ألفية العولمة و القرية الكونية وذلك يستوجب إلغاء الخصوصيات و ما به تتحدد الهويّة وإذا كنا بلا استراتيجيّة فلا بأس بالاقتباس مادام العقل العربي والإسلامي تعطلّ مع رحيل أبي علي بن سينا !!

وكل هذه أسئلة نسمع صداها هنا وهناك في خطّ طنجة – جاكرتا . مبدئيا عندما نعمل النظر في خارطتنا جنوبا و في خارطتهم شمالا نستكشف مجموعة لا حصر لها من الملاحظات منها –

1- كل التراجع في خط الجنوب وكل التقدم في خط الشمال .

2- ثمانون بالمائة من البشر يقطنون في خط الجنوب وعشرون بالمائة في خط الشمال .

3- جنوب مستهلك و شمال منتج .



4- أغلبية خط الجنوب تعيش في خضم كل المعضلات البشريّة التي عرفها الإنسان منذ وجد على هذه البسيطة , وأقليّة في الشمال تتمتع بكل ملذات الدنيا .

5- أغلبية في خط الجنوب تعيش وفق لهجات لا علاقة لها بلغة التقنية ,و أقلية في خط الشمال نسيت لغتها – إستخدمنا لفظ النسيان تجاوزا و إلاّ فهي تعض بالنواجذ على لغتها- و تفاعلت مع لغة الأرقام المنتجة والتي بفضلها تحولّت الطبيعة ومواردها إلى بضائع تسوّق إلينا بالعملة الصعبة .

وما إلى ذلك من المفارقات بل المتناقضات التي لا يمكن إيجازها في هذا السياق وكل ما جئنا على ذكره يكشف عن فعّالية إستراتيجيتهم و نكوص استراتيجيتنا بين قوسين .

لكن أليس إستراتيجيتهم تهدف إلى بناء حضارة يستفيد منها بنو الإنسان ! أليس القبول بإستراتيجيّة الآخر المنتصرة أمر لابدّ منه ! لكن ما هي معالم إستراتيجيتهم و معالم إستراتيجيتنا !

عندما يمعن الإنسان الباحث النظر في آلية عمل الحضارة الغربية يدرك أنّ هذه الحضارة لم تنطلق من فراغ بل إنهّا وصلت إلى ما حققته بعد جهد مستفيض في كافة المجالات . فإذا أخذنا المثال السويدي نجد أن السويديين يقدسون العمل أيمّا تقديس , ويردد السويديون بإستمرار عبارة العمل هويتنا والهوية عملنا . ويضاف إلى ذلك حب غير طبيعي للعلم والإستكشاف والمعرفة , و تصرف الحكومة السويدية مبالغ خيالية على العلم والتعليم في نفس الوقت , وكل المجالات مفتوحة للراغبين في التحصيل العلمي , بل إنّ الحكومة تدفع للطالب راتبا شهريا وتفتح له كل المجالات للتحصيل العلمي حتى إذا أراد هذا الطالب إكمال دراساته خارج السويد .

فالعلم والعمل هما جناحا الإستراتيجية الغربية , وهما سببا التطور و النقلة النهضوية التي نراها في الغرب , وللأسف الشديد فإنّ القيمتين المذكورتين تراجع رصيدهما في واقعنا العربي والإسلامي الأمر الذي أدىّ إلى إختلال التوازن في كل المجالات وربما تصحيح الأمور في واقعنا يتم بدءا من إعادة الاعتبار للعلم والعمل على السواء .

والملاحظ أنّ هذا الإنتصار الحضاري للكتلة الغربية بات مقرونا ببعد إيديولوجي يراد تعميمه على واقعنا العربي والإسلامي , ويخشى أن ينتهي بنا المطاف على الأمد البعيد إلى فقدان الإستراتيجيا و الإيديولوجيا على حدّ سواء , فنبقى مهيضي الجناح نتفرّج على غيرنا وهم يصنعون الحاضر والمستقبل , فيما نكتفي نحن ببعض الإنجازات التاريخية والماضيّة