Pages


إشكاليات ألأنا عند الحكام العرب

يقع علم الشخصية في تلك المساحة من الترابط بين علمي النفس والاجتماع، وللولوج فيها لابد من عمق ثقافي عالي للباحثين في مكوناتها وللمتعاطين مع نتائج افعالها. ولما كان منهجي في فلسفة التاريخ يتبع الدراسات الابستمولوجية فاني ارى في دراسة الشخصية الحاجة الى تحديد التكوين التاريخي والبيئي لها اضافة الى عناصر التأثير النفسي والاجتماعي في صياغة ملامحها، وهنا لا ننسى أهمية العودة إلى علم السلوك، وعلمي الوراثة والجينات، وقد يتصور البعض ان العرق والانتماء القبلي والاسري لا ينعكس على الشخصية ولا يترك آثاره عليها، وهذا خطأ جسيم ونقص كبير في منهج البحث، فمن المهم الرجوع إلى دراسات أستاذنا العلامة الوردي في بحوثه الاجتماعية ونظرته الى الشخصية العربية.

وفي بحوثنا حول الشخصية خلصنا إلى تحديد أنواع من المعايير التي تبناها عدد كبير من طلابنا في الدراسات العليا وصارت مجالاً في الاشكال التأسيسية لبحوثهم:

أولا: الادراك. ثانياً الوعي. ثالثاً: الغرائز رابعاً: المشاركة. خامساً: التكيف. سادساً: البيئة. سابعا: النرجسية. ثامناً: التعليم. تاسعاً: التدين. وفي هذه الدراسة الموجزة سنضع ملامح شخصية الحاكم وعندما نستعمل هذا المصطلح فسيكون للاشارة إلى الحكام (ملوكاً أو أمراء أو رؤساء) دون تمييز.

(1) هذا البحث ملخص شديد الايجاز لكتابي (شخصية الحاكم) الذي يعد الان للطبع وهو يناقش شخصيات الحكام العرب منذ بدايات القرن العشرين. نرجسية وإنتماء إلى الذات: يتمتع الحكام العرب المزعومين بقدر هائل من النرجسية والخضوع لرغبات الذات مما يشكل عائقاً أمام الانفصال عن النزعة الذاتية لصالح الحق العام، وهذه النرجسية إنما هي نتاج لكل التراكمات السلبية من الجهل الثقافي إلى الانحطاط المعرفي إلى النقص في القدرة على تحقيق الذات دون المال والعنف والدماء، اضافة الى ضعف في التركيبة الاسرية، في مجتمع بدوي لا يقيم إعتبارات للافراد والعلاقات الاجتماعية الرصينة، هذا غير الاشكاليات الاخلاقية التي يعاني منها الكثير من هؤلاء. وهذا التقييم لا ينطبق فقط على الذين خرجوا من الصحراء إلى التمدن مباشرة بل أيضا ينطبق على حكام المجتمع المدني فهم لا يقلون بداوة عن الاخرين. إن نظرتنا للشخصية من موقف تاريخي لا ينفصل عن رؤيتنا الاجتماعية لها، فالعجز التي تعاني منه الشخصية الحاكمة، إنما هو نتاج واقعي للقصور الحاصل نتيجة لتدني مستويات الادراك والوعي الذاتي والعام، ولإنحطاط عالي في الرغبة بالمشاركة والتكيف مدفوعة بتنامي نزعات النرجسية وعدم القدرة على التكيف مع المتغيرات الحاصلة، مما يؤدي إلى إنكماش على الذات بشكل مرعب نتيجة لنوع من القلق اللاواعي.

(2) من هنا يمكن إعتبار كل الحكام مصابين بمرض التوحد، فهم يتصرفون كمرضى التوحد في انعزالهم عن أفكار الاخرين، كما إنهم لا يستيطعون تكوين علاقات حقيقية خارج الاطار المهني، فهم إما أن يكونوا حكاماً أو لا يكونوا!! هذا الاستغراق في (الأنا)، صار جزءاً أصيلا من التركيبة المعقدة في شخصية الحاكم، وهي لا تنفصل عن تفكيره وإتجاهات سلوكه، بل تكون حاضرة في كل التفاصيل الدقيقة، في لحظات إتخاذ القرار وفي المتعة الجنسية، وحتى زمن السكون ولحظات التردد، وهو يعرف أنه لا يمكن أن يكون صادقاً لإنه إن فعل ذلك سيكشف حقيقته التي يحاول إخفائها بشخصية الحاكم. ففي تقديرة هو الحاكم فقط وأي ملامح لشخصيته قبل ذلك لا قيمة لها في تصورة لأنها تسيء الى شخصية الحاكم حتى وإن كانت أكثر ايجابية من شخصية الحاكم التي تقمصها.

(3) أما الالقاب التي يطلقها على نفسه، أو يطلقها الاخرون عليه بإيحاءات منه أو ربما بأوامر صارمة كي يتم نشرها وإشاعتها إعلامياً حتى تلتصق بما يشبه أثر مرض الجدري، فهي لا تعكس حقيقته بقدر ما تعكس نرجسيته في أن يكون حاضراً في كل مقطع من مقاطع الحياة. فهو الوطن وهو سيف العرب والقائد الملهم، خادم الحرمين، والقائد الضرورة، وملك الملوك، والامير والاب القائد وإلى غير ذلك من الالقاب التي لم تطلق حتى على الانبياء والرسل عليهم السلام.

(4) التغيير والزمن: يقف الحاكم موقفاً سلبياً من الزمن، فهو يعرف أن التقدم سيكشف الجوانب السلبية في المظهر الخارجي، الذي يرفضه الحاكم، فحكامنا العرب لا يشيبون ويحاربون كل شعرة شيب وكل أخدود على الوجه والجبين وإن كان صغيراً لا تلحظة كاميرات التصوير، فهم ينافسون في ذلك الممثلين ونجوم السينما، بل أكثر لانهم يمتلكون الثروات التي يمكن صرفها على اختصاصيي التجميل والادوية والمراهم والخلايا الجذعية، وغيرها من مسنحضرات الشباب.

(5) الخوف من الزمن خوف فطري ولكنه عند الحاكم يصبح مشكلة لا يمكن تجاوزها بالمستحضرات الكيمياوية، فالزمن يعني الاقتراب من الموت كما يعني تراكم عناصر العجز، فالحاكم عندما يتجاوز الستين ويقترب من السبعين من العمر هو كغيره من الرجال في التعرض للاصابات والامراض وخاصة امراض الشيخوخة وضعف الذاكرة.

(6) لكن يبدو أن أكثر ما يشكل هاجساً عند كل الحكام هو ضعف القدرات الجنسية التي تشغل الحاكم أكثر من ضعف القدرات الذهنية، فالرجولة عند العرب قضية جنسية بالمقام الاول أو على الاقل ما يتوهمون، وعندما يقف عقل الحاكم عند قضية الرجولة متجاوزاً الاشكاليات المحلية والانية والدولية، فهو يعتبر أن هذه القضية آخر الحصون التي يجوز لها أن تسقط وعندما يواجه العجز يعوض ذلك بالمؤآمرات وسفك الدماء وصفقات الاسلحة والتلاعب بالقانون حتى وإن كان هذا القانون بات نسيجاً رقيقاً لا يستر العورة. إشكاليات الثقافة: قال المفكر والباحث الكبير محمد حسنين هيكل : اجتمعت أكثر من تسع ساعات مع السيد حسن نصر الله تناقشنا بكل القضايا الإقليمية والدولية ومرت الساعات سريعة، بينما عندما اجتمعت مع الملك عبد الله آل سعود قضيت نصف ساعة شعرتها دهراً، ولما سُئل عن الحديث الذي دار بينه وبين الملك قال: سألني سؤال واحد ونحن على الغداء: ( شلون تدبر راسك مع الحريم وانت بعمر الثمانين)!؟ وخرجت الصحف السعودية في اليوم التالي تقول إننا استعرضنا الأوضاع الإقليمية والدولية!!

المعرفة تلك الجوهرة التي تخلى عنها الحكام العرب من اجل كرسي السلطة، فالعلم آخر ما يفكر به رجل السلطة ففي الخليج الحكام هم أميون من الطراز الاول، وما التمسح ببعض الاسماء الفاشلة إلا محاولة لتكريس صورة وهمية عن نموذج الحكمن أذ ان الاعلام يحاول تصوير التعليم بانه ثقافة ولكن هيهات، فالمسافة بين التعلم والثقافة كتلك التي بين الارض والجوزاء. أما الاخرون كل الاخرين، حتى الذين حملوا منهم درجات اكاديمية، فقد مسخت السلطة بقايا المعرفة عن عقولهم، ولذا لم يحدث اي تطوير في بلد يدعي انه تحرر منذ 2003م فالحكام لم يضيفوا اي عناصر حضارية جديدة بل ساهمرا في تخريب ما كان موجوداً أصلاً. في الفترة التي شكل خمسينات – سبعينات القرن الماضي كانت جامعات بغداد والبصرة والمستنصرية في العراق والقاهرة وعين شمس والاسكندرية واسيوط في مصر، ودمشق في سوريا والجامعة العربية في بيروت تمثل أمنية كل طالب باحث عن العلم والمعرفة، ولكن الان تم تخريب هذه الصروح العلمية بطروحات المنهاهج السلفية والطائفية والصراعات بين الهيئات التعليمية وصار الطالب آخر ما يفكر به رئيس القسم او العميد او رئيس الجامعة، في الوقت الذي كان فيه العلم محترماً ويوم كنا نطلق على الجامعة بالحرم العلمي صارت الجامعات بيوت للدعارة الفكرية والجسدية على السواء.

(7) الحاكم لا يفكر في بناء جامعة إلا إذا تصدرت أسمه ولا يختار من الاساتذة الا من كان على هواه في الجهل المعرفي، ومن هنا يتم منح هؤلاء درجات علمية (دكتوراه شرف)، الحاكم يحتاج الى ثقافة في تكوين شخصيته كما يحتاج الى ان يتثقف في مأكله وملبسه ومشربه ونوع علاقاته، فلا يكفي ان يكون له حلاقاً وخياطاً وما كييراً ليكون حاكماً لا يكفي ان يكون له طاقم من المستشارين من اصحاب الدرجات العليا ليكون قائداً، لا يكفي ان يكون له جيش من الموظفين والخدم والمتملقين والشعراء والفقهاء ليكون سلطاناً مالكاً للارض. لا يكفي كل ذلك المهم ان يكون هو من يمتلك العقل والمعرفة، المهم ان يكون هو من يحمل منارة الفكرة لا ان يحملها له الاخرون. مشكلة الحكام انهم لا يمتلكون وعياً خارج مساحة (الانا)، فابجدية اللغة عندهم تبدأ بحرف الالف لتنتهي بحرف الالف، بمعنى انهم لا يتجاوزون تلك المساحة المحصورة بين الانا والانا، والكتابة عندهم لا تتجاوز كتابة الشيكات التي يحررها لهم مستشارون مزيفون يتركون للحاكم مساحة التوقيع فقط. الحاكم لا يقرأ التقارير لانها تُقرأ له، ولا يكتب خطاباته لان الكاتب الشبح يقوم بذلك وهو بالكاد يقرأ ما كُتب له، ومن هنا نراه يتلعثم ويرتبك ولا يحسن قراءة جملة مفيدة واحدة. فهو يريد ان يكون حاضرا في كل مقطع لكنه لا يحسن التعامل مع مفردات الحياة. ؟ وقد وجدنا، إنهم يجهلون حتى اللغة العربية التي ينتمون الى أمتها مع انها من الواجبات العقلية لتوقف العلوم والمعرف العربية عليها.

(8) الحاكم والامة: الامة بالنسبة للحاكم غير موجودة الا بما يحقق رغباته ويطفي شهوته للتسلط، وفي حدود العرش تنتهي صيرورة الامة لتتجلى صورة الحاكم مرسوماً بكل الرتوش الممكنة ليبدو أصغر وأجمل وليكون الفريد من نوعه، لا تحقق الامة حضورها في ذهن الحاكم إلا إذا نادت به سيداً على الوجود والحاكم الاوحد، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية كم من الحكام تغيروا على سطح الارض في العالم العربي؟ بالتأكيد إنهم ثلة قليلة ما دام الواحد منهم يبقى ملكاً ورئيساً وقائداً وحاكماً وإماماً مدى الحياة. ولكن ايهما أهم في حركة التاريخ الحاكم أم الامة؟ قد لا يذكر المؤرخون حقيقة الامة وصيرورتها ولكنهم يحشون كتب التاريخ بالحكام أبتداء من هيرودوتس مروراً بالمسعودي والطبري وإبن الاثير وذاك الكم اللامتناهي من الاسماء. الامة هي التي تصنع الحاكم، فهو ليس مخلوقاً فضائياً جاء من مجرة أخرى أو بعد كوني ثانٍ، لانه إذا أراد أن يكون حاكماً عليه أن يمتلك تاريخاً على هذه الارض التي يسكنها بشر لا ملائكة.

(9) من المؤسف ان الحكام العرب يتصورون انهم من غير هذه الارض، وهم في رؤيتهم الضيقة أقرب إلى أنصاف الالهة في الميثولوجيا اليونانية، للكنهم ينسون أن (أخيل) ذاته كان يمتلك نقطة ضعف فكيف بمن كله نقطة ضعف في الخاتمة فان هذه الدراسة ستعيد كتابة التاريخ من منطلق الامة وليس الحكام، ونحن في بحوثنا القادمة سنجرد الحكام من تلك الالقاب الوهمية التي ألصقوها بانفسهم لنكشف للامة أن هؤلاء مجرد كيانات لاتحتل مساحة في حركة التاريخ إلا بما تسمح به الامة لها، وإن محاولة إبطاء حركة التاريخ ما هي إلا وهم في عقول الحكام.

هوامش

1- اخترت استعمال مصطلح الحاكم لانه اقرب الى المفهوم المتداول، كما انه ذات المصطلح في القاموس السياسي.

2- رحلة إلى إعماق النفس، القزويني، عبد الحسين، 141.

3- ملاحظات في علم النفس التجريبي. المؤلف.

4- الالقاب مسألة إيحائية قد تستغرق الحاكم في حالة من التقمص التمثيلي لايمكن له الانفكاك عنها بسهولة.

5- يقول برنارد شو: " إن سر الشقاء هو ان نهتم كثيراً بأن نكون سعداء ". راجع المقتطفات السيكولوجية، باقي، محمد سليم، 152-153.

6- أصول علم النفس، راجح، أحمد عزت، 570-571.

7- وقد وجدت أن البحوث التي تردني من أكاديميين وطلاب دراسات عليا من جامعات عربية وعراقية بحوث هزيلة لا ترقى ان تكون لطلاب في المراحل الاكاديمية الاولى، فكيف تكون للدراسات العليا؟ والكتب والمؤلفات التي تصدر أراها قاصرة عن الكثير حتى تبدو أن لا قيمة علمية لها لانها تفتقر الى روح المعرفة.

8- حضارة العراق، ج11 ص46 نقلا عن مجمع البحرين.

9- دراسات في نهاية التاريخ: الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي، ج2 ص 356. .