Pages



غياب العقل العربي شكل عائقا في تطورنا


خلال العقود الماضية استحوذت ظاهرة التخلف العربي على اهتمام طائفة كبيرة من المفكرين والمنظّرين والعلماء العرب ، فوضعوا المئات من الدراسا ت والابحاث ، كما نظموا عددا كبير من الندوات والمناظرات التي تناولت تشخيص الظاهرة ، ولكن رغم هذا العطاء الفكري والنظري ان صح التعبير تحليلا للظاهرة ، تظل الرؤية في تشخيص الظاهرة ذاتية وغير موضوعية وتدور في حلقة مفرغة ، نظرا لتجيير اسباب التخلف الى العامل الخارجي وهو في كل الاحوال يتمثل بالثنائي الامبريالية والصهيونية الذي يناصب امتنا العربية العداء ، ويحيك ضدها المؤمرات التي تستهدف في المقام الاول

 تكريس كافة اشكال التخلف فيها ، مع عدم اغفال العامل الداخلى الاقل اهمية ، والذي ياتي بنظرهم في المرتبة الثانية في تفاقم الظاهرة كالامية والاختلالات والتشوهات الاقتصادية ، والجهل والمرض الى اخر المصفوفة دون الولوج في حقل الالغام او بتعبير ادق تجاوز المحرمات الدينية التي تشكل قيدا على الابداع وحرية التفكير، خشية ان 

يتعرض المشتغلون في مجال تحليل ظاهرة التخلف ، للمساءلة القانونية او لنقمة رجال الدين التي كثيرا ما تجلت في اصدار فتاوى تقضي بهدر دماء المتطاولين والجاحدين للعقائد الدينية المعصومة عن الخطا والصالحة لكل زمان ومكان

ومع ذلك لا يخلو ميدان البحث ولو في حالات نادرة واستثنائية من عدد ضئيل من المفكّرين والمنظّرين والفلاسفة ممن لا تنقصهم الجراة لوضع النقاط على الحروف برد هم اسباب الظاهرة الى تغييب العقل بالنص الديني غير ابهين بارهاب المؤسسة الدينية 

ولا بالمساءلة القانونية . ويبرز من بين هذه القلة رئيس جمعية الفلسفة الاردنية الدكتور هشام الغصيب الذي لا يكل ويمل منذ فترة طويلة من السعي في فتح ثغرة في القلعة الدينية ، لعله في عشرات الدراسات والندوات التي كرّسها في دراسة اسبا ب تكلس او لنقل تغييب العقل العربي يؤسس لفكر تنويري ، يحرر العقل من قيود النص الديني التي بنظره تحد من حرية التفكبر

وفي صولاته وجولاته ضد ظاهرة اللاعقل التي تسود المنطقة ، وربما تكون الاعنف في فتح النار على هذه الظاهرة ،القى في قاعة المركز الثقافي المسكوني في عمان محاضرة بعنوان محنة العقل في الثقافة العربية نلخصها بالتالي: يرى الدكتور الغصيب ان محنة الثقافة العربية المزمنة هي في غياب العقل : فتتسمم الاجواء ويعاق التقدم في الاقتصاد

 والسياسة والاخلاق والتعليم ، في امة تعاني مشكلا ثقافيا مزمنا لا مثيل له، اذ تغلبت الامتان اليابانية والصينية عليه وتسير الهندية في طريقها الى النجاح مثلما ان اميركا اللاتينية تحررت من هذا المشكل ، بفعل تطورات الثقافة الاوروبية في موطنها الاصلي وبالرغم من بعض المحاولات النقدية الحديثة لمجابهة هذا الوضع عندنا فان تصفية للعقل وسيطرة لللاعقل المقدس ظلت منذ العصر الوسيط مؤثرة على ثقافتنا ووعينا الجمعي

و السئوال هنا : ما هي الاليات التي يوظفها العقل وصولا الى الحقيقة النسبية ؟ يذكر الغصيب ان من الياته التفكيك والنقد والتحليل والتركيب غير المحدود ، بحيث لا يقبل مرجعية غير ذاته ، ولا يقبل سلطة الا سلطته ، لان في قبوله تعطيلا والغاء للعقل، فهو القائم على المنطق والاستنباط والاستقراء والتاسيس والشك بالمنهج وبالتالي لا يقبل الامور على علاتها ، في حين كان اللاعقل عند الغصيب يفعل فعله في التاريخ ، في تاسيسه لعقل مكبل ماسور، ينفي السببية والمنطق نحو المشيئة المطلقة ، فانه "والعقل" يتمظهران بصورة اساسية في الخطاب الثقافي والاعلامي والفلسفي والسياسي والترببوزي والاخلاقي والعلمي بما ىهو انساق سائدة في التفكير وبنية لاجهزة مفاهيمية رائجة

وفيما يتعلق بالعقل المغيّب او المفوّت كالذي نراه سائدا في الوعي العربي ، فان صاحبه يعيش واقعه الراهم ولا واقع تاريخه ، اذ هو اسير المتخيّل الاسطوري بصدد الراهن والتاريخ، فلا يرى الطبيعة بقوانينها السببية ، ولا يرى حاضره الاجتماعي ولا تاريخه الحقيقي ولا العقل بتجلياته الحديثة ، وبهذا العقل المغيب نجد انفسنا امام شلل في الارادة الجمعية وضياع بوصلتها التاريخية ، فلا يتبلور الشارع العربي ذاتا فاعلة ، بل يظل 

موضوعا (مفعولا به وعليه وفيه)، فينعزل المثقف والمفكر في برجه العاجي ، او ينحول بوق دعاية لاصحاب المال والنفوذ، او ما اطلق عليه الكمبرادور الثقافي. ولاعاد تفعيل اليات العقل العربي لا يرى الغصيب مناصا من التوجه الى الاستغراب لان ضالتنا اليوم ينبغي ان تكون في تملّك العقل العلمي ، والارتقاء بوعينا الجمعي عبر هذا التملك ، وهي

 عملية ثورية محفوفة بالمخاطر ، تتمثل في دفع ارادة التقدم ، ونقد الوعي المغيّب باتجاه سلسلة من التركيب والتفكيك على ضخرة الحداثة ،، وتفكيك اللاعقل المقدس وبناء وعي جمعي حديث على اساس العقل العلمي ، والاستغراب بلا شك مخاطرة ثقافية روحية كبرى لا مفر منها لامة مثل امتنا العربية الملجومة في تطورها ، وما يزال يكبّلها المشكل الثقافي المزمن المرير

ويبقى ان نضيف تشخيصا للعوامل المؤثرة في تغييب العقل العامل الاقتصادي الذي لم يتطرق اليه المحاضر ربما لضييق الوقت واقصد هنا الاقتصاد الريعي الذي طغى على النشاط الاقتصادى منذ فورة النفط والغاز في بداية السبعينات من القرن الماضي وتجلى في استخراج النفط والغاز من حقولها في السعودية وامارات الخليج العربي بكميات كبيرة تجاوزت في حالات كثيرة الطلب العالمي وبيعه كمواد خام في الاسواق العالمية ، وبانفاق الجزء الاكبر من عوائد النفط والغاز على الاستهلاك الترفي والمظهري و في 

مرافق خدمية وعسكرية لا تحقق تراكما للدخل الوطنى بل ان التوسع في قطاع العقارات او بما يسمى الغابات الاسمنتية كان في الغالب الاعم على حساب الاراضي الزراعية التي انكمشت مع التوسع الافقي للعقارات وبالمحصلة النهائية على حساب امننا الغذائي فاصبحنا ناكل مما لا نزع ونلبس مما لا نحيك ، واذ تحدثنا عن العلاقة الجدلية بين 

الاقتصاد الريعي وبين تغييب العقل فكنا نقصد ان الدول الخليجية المصدرة للنفط كانت والغاز كانت تنفق جزءا كبيرا منه على التنظيمات والاحزاب الدينية كجماعة الاخوان المسلمين والسلفيين ، وعلى بناء المساجد والفضائيات الدينية وعلى اقامة العشرات من المعاهد الدينية وكليات الشريعة التي تخرج منها عشرات ا لالوف من الوعاظ والائمة ، وبذلك شكلوا لهم منابر وادوات ساهمت في تعزيز نفوذهم في المنطقة العربية ، وفي 

الترويج للفكر الديني ولمنظومة القيم البدوية الرعوية الوهابية ، بديلا للفكر العلمي الذي ظل سائدا في الجزء المتقدم حضاريا في العالم العربي، كسورية ولبنان ومصر وفلسطين والاردن والعراق وبعض دول المغرب العربي في ظل اقتصاد يرتكز على الزراعة والتصنيع الخفيف، فتراجع العقل العلمي لصالح العقل المغيّب بالقيود والضوابط الدينية ، وانهارت حصون العلمانيين واليساريين والقوميين ، وتكاثرت حصون رجال الدين