وضعنا مزري يا قومنا؟
تعيش أمتنا الآن حالة نوعية من
الخلاف والاختلاف، وحالات من الحوار الذي يعقبه الشجار، فكل طائفة بآرائها متشبثة،
وكل واحد معجب برأيه، وفي مثل هذه البيئة لا يمكن الإصلاح أبدا، حيث الكبر في قبول
الحق، وعدم التعلم من الآخرين، ومن ثم يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا
فائدة منه ولا جدوى، وهذا ما حذر منه النبي –صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي
رواه أبو داوود والترمذي وابن ماجه والبيهقي فعن
أبي أمية الشعباني، قال أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت: كيف تصنع بهذه الآية
قال أية آية قال قلت قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من
ضل إذا اهتديتم)، قال أما والله لقد سألتَ عنها خبيرا، سألتُ عنها رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فقال: (بل أنتم ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت
شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل
ذي رأي برأيه، ورأيت أمرا لا يدان لك به فعليك نفسك ودع عنك أمر العوام،
فإن من ورائك أيام الصبر، الصبرُ فيهن مثلُ قبض على الجمر، للعامل فيهن كأجر خمسين
رجلا يعملون مثل عمله، لفظ حديث بن شعيب زاد بن المبارك في روايته قال وزادني
غيره، قالوا يا رسول الله أجر خمسين منهم قال أجر خمسين منكم.
إن هذا الحديث يوضح خصائص
البيئة التي لا وفاق فيها، بل الخلاف سيد أمرها، فهي بيئة غير منظمة، ولا قانون
يسيرون عليه، بل كل يتبع هواه، لا يعرف حقوقه ووجباته، ليبلغ هذا الهوى مبلغا
عظيما في النفس يجعلها لا تحب العطاء، وتؤثر الأخذ، فتصبيح شحيحة بخيلة، ثم هي بعد
ذلك معجبة برأيها، غير معترفة بأخطائها بسبب اتباعها هواها، وشحها على الآخرين،
وإذا وصل الأمر إلى هذا الحد من الإعجاب بالرأي، وصلت النفس إلى حد الغرور، ومن ثم
فالمصلحون لن يأخذ أحد بآرائهم، إذا البيئة غير مهيئة لذلك، وهو ما عبر عنه
المتنبي الحكيم بقوله:
ووضع الندى في موضع السيف
بالعلا
مضر كوضع السيف في موضع الندى
فهذه الحالات التي يكون الأمر
بالمعروف فيها والنهي عن المنكر لا فائدة منها، بل قد يصبح مضرا، وقد حدثنا القرآن
عن نماذج من هذه البيئات مع الأنبياء والمرسلين، فنوح لبث في قومه ألف سنة إلا
خمسين عاما، وكانت النتيجة عدم الاستجابة وقولهم: (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت
جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) وقالت عاد لنبي الله هود: (سواء علينا
أوعظت أم لم تكن من الواعظين إن هذا إلا خلق الأولين) وقال أصحاب الأيكة لشعيب
–عليه السلام-: (ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا، ولولا رهطك
لرجمناك وما أنت علينا بعزيز).
إذا هذه بيئات لا يمكن الإصلاح
فيها، لأن الهوى فيها متبع، والشح صار مطاعا حيث بات طابعا عاما عليهم، وبلغ بهم
الغرور غايته في إعجاب كل ذي رأي برأيه، لتكون النتيجة المنطقية (ورأيت أمرا لا
يدان لك به)، في هذه الحالة، على المسلم أن يلزم نفسه وأن يصلح من شأنها، ويكفيه
أن ينكر بقلبه، وعليه أن يتبع في هذه الحالة قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا
عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)، ولا يكون مخالفا لمبدأ الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر الذي أمرنا به الله في قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس
تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، ولا يكون مخالفا لقوله –صلى
الله عليه وسلم- (والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم
ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا).