Pages

الاحتلال السعودي الغاصب لعسير عام 1932م


الاحتلال السعودي الغاصب لعسير عام 1932م

كانت معاهدة مكة الموقعة بين الملك عبد العزيز والحسن الادريسي في 21 أكتوبر 1926م، تقضي بوضع عسير تحت الحماية السعودية ـ كما أشرنا من قبل ـ وبمقتضى تلك المعاهدة بعث عبد العزيز مندوباً عنه إلى عسير يدعى صالح بن عبد الواحد بهدف مراقبة الاتصالات الخارجية لعسير باعتبارها تمثل حجر الزاوية في معاهدة الحماية[1].

ولكن بما أن الملك عبد العزيز كان يطمح في حقيقة الأمر إلى احتلال عسير وضمها إلى دائرة نفوذه، وكان يرى في معاهدة مكة الوسيلة التي يمكنه الاعتماد عليها لتحقيق طموحه فقد أصدر مرسوماً ملكياً في 20 نوفمبر 1930م يقضي بتشكيل مجلس تشريعي في منطقة عسير يختص بحماية مصالح المنطقة وإدارة مواردها التجارية والزراعية[2] فقط في حين ظلت الشؤون الخارجية وشؤون البدو في المنطقة من اختصاص الحكومة السعودية، وقد تولاها في ذلك الحين حمد الشويعر مندوباً من لدى الملك عبد العزيز[3].

ولقد تزامن ذلك مع قيام المندوبين السعوديين في منطقة عسير بالحد من صلاحيات واختصاصات الحسن الادريسي فيها، وتقليص نفوذه عليها[4]، ومما زاد الطين بلة قيام فهر بن زعير المندوب السعودي الجديد في المنطقة باعاقة صرف المستحقات المالية المقررة للإدريسي ومنع ذكر اسمه في خطبة الجمعة وإنزال العلم الخاص به من على سواري الإمارة وغيرها من الإجراءات الاخرى[5].

وعندما أدرك الحسن الادريسي مغبة الخطأ الذي ارتكبه من خلال قيامه بإبرام معاهدة مكة، والتي لا يعدو كونها فخ أو شرك أوقعه فيه الملك عبد العزيز للتخلص من النفوذ الادريسي في منطقة عسيرـ عند ذلك ـ اندفع الادريسي إلى الاتصال بالقوى المعادية والمناهظة للملك عبد العزيز،، وفي مقدمتها الإمام يحيى في اليمن وعبد الله ابن الشريف حسين في الأردن حزب الأحرار الحجازي وطلب منها العمل على دعمه ومساندته بالمال والسلاح حتى يتسنى له تفجير الموقف العسكري ضد النفوذ السعودي في المنطقة[6].

ومواكبة لذلك اجتمع احسن الادريسي مع الشيخ محمد أمين الشنقيطي عضو حزب الاحرار الحجازي في منطقة "اللحية" واتفق معه على وضع الخطط الكفيلة بإثارة الفوضى والاضطرابات في وجه النفوذ السعودي في المنطقة[7]، وعند ذلك أبرق فهر بن زعير إلى الملك عبد العزيز ليخبره بنوايا الادريسي وخططه في المنطقة، غير ان الملك عبد العزيز لجأ إلى التروي والتأني ولم يتخذ إزاء الادريسي أي تصرف ينم عن القسوة أو الشدة في ذلك الحين[8].

ولما كان الحسن الادريسي قد أزمع على استخدام القوة لتغير الوضع القائم في المنطقة واستعادة جميع سلطاته فيها، فقد بادر في 4 نوفمبر 1932م إلى مهاجمة مدينة جيزان واحتلالها[9] ومن ثم اعتقال فهر بن زعير وبعض المندوبين السعوديين والزج بهم في غياهب السجون[10]،وقام بعد ذلك أي في 11 نوفمبر بارسال برقية إلى الملك عبد العزيز اوضح فيها أهم الدوافع والأسباب التي جعلته يقوم باحتلال جيزان، واعتقال المندوبين السعوديين في المنطقة، والتي من جملتها تحقيق أمله في استعادة صلاحياته واختصاصاته في المنطقة، فرد عليه الملك عبد العزيز مقترحاً عليه تشكيل لجنة سعودية وأخرى ادريسية وتكليفهما بحل الخلاف وتسويته، وبالفعل جرى تشكيل لجنة سعودية تتألف من حامد الشقيق وعبد الله السليمان وخالد القرقني[11] وتحركت اللجنة في اتجاه المنطقة ترافقها ثلة من الجنود السعوديين بغرض حمايتها وتأمين تحركاته في المنطقة.

ولكن ما إن وصلت اللجنة السعودية إلى "القحمة" و"الشقيق" حتى تأكد لها بشكل قاطع ان الثورة الادريسية تتسم بالقوة والحسم وترمى غاية ما ترمي إلى إلغاء معاهدة الحماية المبرمة بين الحسن الادريسي والملك عبد العزيز في 21 أكتوبر 1926م، ومن ثم التخلص من النفوذ السعودي في المنطقة بشكل نهائي[12].

وحيال هذا التطور أمر الملك عبد العزيز بارسال قوات عسكرية كبيرة إلى منطقة عسير عن طريق البر والبحر[13]، وتعززها قوات أخرى كانت في المنطقة قبل نشوب تلك التطورات وتحت حماية عدد من الطائرات الحربية البريطانية شنت القوات السعودية هجوماً خاطفاً على مدينة جيزان تمكنت خلاله من احتلالها والسيطرة عليها، ومن ثم إطلاق سراح جميع المندوبين والموظفين السعوديين والمحتجزين فيها الأمر الذي دفع الحسن الادريسي وجماعته إلى الهرب في اتجاه "صبيا" فتابعته القوات السعودية هناك واشتبكت معه في معركة ضارية انتهت في أواخر نوفمبر 1932م بفراره مع أعوانه وأفراد اسرته[14]، ومن ضمنهم عبد الوهاب الادريسي[15] في اتجاه الجنوب إلى المظايا فنشار فأبو عريش فالزيارة[16]حتى استقر بهم المقام في "حرض" داخل الأراضي اليمنية[17] ومن هناك اتصل الادريسي بالإمام يحيى طالباً اعتباره مع جماعته وأفراد أسرته لاجئاً سياسياً. فأجاره الإمام ومن معه وأمر ببقائهم في منطقة تدعى "زهب حجر" من حرض[18].

وبهذا تفرقت قوات الحسن الادريسي وتشتت انصاره وأعوانه، وولت بعض القبائل الموالية له مدبرة نحو جبال عسير للتخلص فيها والاحتماء بها هرباً من قوات السعودية النازية، عند ذلك قرر عبد العزيز ضم منطقة عسير إلى الأراضي السعودية بصورة نهائية وقام بتعيين كل من الأمير عبد العزيز بن مساعد قائداً عاماً للقوات السعودية في عسير ومقره "أبها" والأمير تركي السديدي حاكماً لعسير ومقره أبها أيضاً[19] وحمد الشويعر مساعداً لحاكم منطقة عسير ومقره "جيزان"[20].

ويعتبر قرار عبد العزيز بضم منطقة عسير قراراً مخالفاً لبنود معاهدة مكة[21] ومخالفاً لحقوق اليمن التاريخية في المنطقة ومخالفاً لماهية الشرعية الدولية والقانون الدولي العام، والذي جاء في أحد فقراته أنه "لا يجوز لأية دولة مد سيادتها على إقليم تابع لدولة معترف بوجوها وسيادتها عليه حتى لو كان الإقليم مسكوناً بشعب من الشعوب، وله تنظيمه السياسي الخاص"[22].

وفي هذا الوقت أبرق الملك عبد العزيز إلى الإمام يحيى يطلب منه تسليم الحسن الادريسي وجماعته إليه عملاً بمقتضى معاهدة "العرو" المبرمة بين البلدين في 15 ديسمبر 1931م، غير ان الإمام يحيى رفض تسليم الادارسة إلى السعودية تعبيراً عن تعاطفه وتعاونه معهم ومجارات لروح العادات والتقاليد العربية والإسلامية التي تستوجب إجارة المستجير وحماية المستغيث مهما كانت الأمور[23]، بل أن الإمام طلب عبد العزيز بإصدار عفو شامل عن الحسن الادريسي وجماعته حتى يتسنى لهم مواصلة حياتهم وتدابير شؤونهم بأمن واستقرار، وهو الطلب الذي وافق عليه الملك عبد العزيز في آخر المطاف[24].

وعندما تلقى الإمام يحيى موافقة الملك عبد العزيز على إصداره هذا العفو اقترح عليه عقد اجتماع في ميدي بين مندوبيه وبين الحسن الادريسي بهدف إنهاء الخلاف وتسوية الصراع بين الطرفين بالطرق الودية والسلمية، فوافق الملك عبد العزيز على هذا الاقتراح وكلف عبد العزيز بن مساعد ـ القائد العام للقوات المسلحة في عسير ـ بإرسال وفد إلى "ميدي" للاجتماع بالادريسي هناك، فانعقد الاجتماع بين الطرفين في مارس 1933م، وفيه طالب الادريسي بأن تعاد إليه جميع صلاحياته وسلطاته في حكم منطقة عسير فرد عليه الوفد السعودي بأنه لم يأت إلى الاجتماع لمناقشة هذا الموضوع أو التباحث حوله، وإنما أتى بهدف استسلامه أي الادريسي مع جميع أعوانه وانصاره بدون قيد أو شرط سوى شروط الأمان التي أقرها الملك عبد العزيز في بيان العفو العام، ونتيجة لذلك فشل مؤتمر ميدي في حل الخلاف السعودي ـ الادريسي وإنهائه في ذلك الحين.

واستخلاصاً لذلك يمكن القول بأن تطلع الحسن الاريسي للتخلص من معاهدة مكة وتجاوز آثارها ونتائجها الخطرة، كان وراء اندفاعه إلى إعلان الثورة التحررية ضد النفوذ السعودي في منطقة عسير، الأمر الذي أدى إلى قيام الملك عبد العزيز بمحاربته وإخراجه من المنطقة، ومن ثم ضمها إلى الأراضي السعودية بأسلوب همجي غادر، وبطريقة تتنافى كلية مع حقوق اليمن التاريخية في المنطقة.. وتتعارض مع سائر الأعراف والمواثيق الدولية.

[1] د/فتوح عبد المحسن الخترش ـ تاريخ العلاقات السعودية ـ اليمنية الكويت ـ منشورات ذات السلاسل 1983 ص95.

[2] د/ فتوح عبد المحسن الخترش ـ المصدر السابق ص 97.

[3] جبران شامية ـ آل سعود ماضيهم ومستقبلهم ـ لندن ـ رياض الريس ومشاركوه المحدودة "بدون تاريخ النشر" ص155.

[4] د/سيد مصطفى سالم ـ تكوين اليمن الحديث ـ اليمن والإمام يحيى 1904م ـ 1948 ـ القاهرة مكتبة مدبولي ـ الطبعة الثالثة 1984 ص364.

[5] د/عصام ضياء الدين ـ المصدر السابق ص 213.

[6] أحمد حسين شرف الدين ـ اليمن عبر التاريخ ـ القاهرة ـ مطبعة السنة المحمدية 1963 ـ ص213.

[7] د/فتوح عب المحس الخترش ـ المصدر السابق ص98.

[8] أحمد حسين شرف الدين ـ المصدر السابق 283.

[9] د/ سيد مصطفى سالم ـ المصدر السابق ص 265.

[10] د/عبد الله مسعود القباع ـ المصدر السابق ص 245.

[11] د/فتوح عبد المحسن الخترش ـ المصدر السابق ص 103.

[12] د/سيد مصطفى سالم ـ المصدر السابق ص 365.

[13] أحمد حسين شرف الدين ـ المصدر السابق ص 283.

[14] د/سيد مصطفى سالم ـ المصدر السابق ص 265.

[15] د/ محمود كامل المحامي ـ اليمن شماله وجنوبه ـ بيروت ـ دار بيروت للطباعة والنشر 1968 ص 270.

[16] أمين سعيد ـ اليمن تاريخه السياسي منذ استقلاله في القرن الثالث الهجري القاهرة ـ دار احيار الكتب العربية 1959 ص85.

[17] د/ صلاح العقاد ـ المشرق العربي المعاصر ـ القاهرة ـ مكتبة الانجلو المصرية 1988 ص525.

[18] أحمد حسين تشرف الدين ـ المصدر السابق 284.

[19] د/ سيد مصطفى سالم ـ المصدر السابق ص 265.

[20] د/ فتوح عبد المحسن الخترش ـ المصدر السابق ص 109.

[21] د/ عصام ضياء الدين ـ المصدر السابق ص 235.

[22] د/أحمد العطار ـ القانون الدولي العام ـ بيروت شركة الفجر للطباعة والنشر 1969 ص239.

[23] د/ صلاح العقاد ـ المصدر السابق ص525.

[24] سلطان ناجي ـ التاريخ العسكري اليمن 1839 ـ 1967، بيروت دار العودة ـ الطبعة الثانية 1985، ص 85.