Pages

أين نحن من أعرافنا .؟
---------------------------
قد لا يجد المرء من الوقت لحظة يفكر فيها عن الإجابة عن سؤال يحمل الكثير من الهوان و اليأس ، و هو مطرق أو شارد أو متحدث أو سامع منصت لعبارات هي عبرات حرقة و أسى و ضنين نفس لم تعرف أن الشح طال بكل أبعاده كائنات لم يعد لها تصنيفا و قد هرولت إلى حيث اللهو والمتاع المقيت من كل عفيف عرف أنّ سرّ الوجود يكون في صحوة بها متعة العيش الكريم الذي لم يعد له وجود بينها ، و عربدة و زبدة طالت رقابنا و تخال أن الحياة صرفت هكذا للطيش لا للتدبر و زرع الخير بما حوى و ترك الشرّ بما أنطوى بكل مواطن النفوس من دون تفرّد أو تفضلا  لأن الجميل و النافع ينبت ببذر به صلاح لا طلاح و به حصاد لا كساد لنعم الله على كل الوجود ...

و قد يقول قائل إنّ هو تدبّر و وعى أنّ مهالكنا نبتت معنا و رعتها كائنات لم يكن لها من المعرفة و العلم تأصلا ! فرمت بكل جميل إلى مكاره ظنّا منها أن هذا لا ينفع و هو عند الباحثين شيئ يرجى فهمه قبل همله ،لأن علّتهم في الترك تأتي بعد المراجعة والرسكلة و عندها فقط يحددّ الجواب بأن يكون بلا أو بلى... .

و هم هكذا بلا  فطنة في الفكر و التصور لا يجدوا من يحميهم من هوام همّها البحث عن لقمة تملأ بها بطنها ، إن لم نقل أن همّ الحياة بها هو هكذا ...

 فلا سبيل إلى تحوّل في الوظيفة والطبيعة، فالخلق هكذا كان و هكذا يبقى و تلك إرادة الخالق في خلقه لغاية لا نعرفها وهي لدى جيراننا حكمة عرفوها و عرّفوها صورة و شكلا.

و أنت إن سألت أساتذتنا في علوم الطبيعة أجابوك إجابة لا ترقى إلى عرف كان آباؤنا يتعاطوه لقلّة في الفهم و شحّ في البحث و هم هكذا عازفون عن الجديد، و يحسبون أن الجديد لا يجدي نفعا.

و أقول أن هذا الجواب للذي ليس له من القواعد ما يستند إليها، فزواله آت لا محالة إن عرف تلامذته أن العلوم يكون تحصيلها من وراء البحار، وليس من أشخاص ألفوا الجلوس طويلا على كراسي لإمتاع نفس بكرة هي للمراهقين متعة و لهم إن عرفوا مهزلة تسقط من منازلهم و تزيد في جهلهم و تجعل منهم ببغاوات تحفظ كليمات تجترها و تلفظها عند كل حضور و تحسب نفسها أنّها قدمت ما عنه تجزى...

و الحال أن الذي يسمع إليها ليس له من حاسّة الفحص شيئا فهو القرص الفارغ من تسجيل ذبذبات على سطحه يحفظ كل ما يلقى إليه حاله حال الكلب في التقاط عظم يتلهى به و يثير حقد أخيه الناظر إليه...

و لكن هل تساءل يوما هؤلاء المهلوسون المولّعون بألعاب مارسوها صغارا و واصلوا طلبها عند كل حين و لهم من العمر سنوات قد يحتاجوها لنفع  أو درأ هموم قد تصلهم و تنال منهم و هم على لهو بأوقات محاسبون عنها لا محالة ، و هم يعرفون ذلك قولا و ليس فعلا، و القول لديهم مجرّد كلمات يتفوّهون بها، و الفعل شيء آخر به طلبات لن يفلحوا في تحصيلها و أنت إن سألت أحدهم هل للزمن نهاية  و أنت تقصد نهاية عمره و ذهاب هيكله و ظلّه من فوق أرض أعطت له الكثير ولم تنل منه القليل، لأجابك أن الحياة هكذا، و أنت لا تعرف قصده... .

فتحاول الولوج إلى أغوار نفسه عساك تجد المبرّر الذي أستند عليه و تسأله و أنت قبل هذا قد هيئت له مراحل تلزمه المرور بها حتى يتنبه الى ما هو قائله.

و تقول له مستفسرا :

هل الحياة لها ما يفسرها، ويشرحها شرحا بسيطا نعرف به مقاصدها، و يجيبك و هو لا يدري أن الجملة التي سقتها له تحمل من الدلالة و المعنى أكثر من تصوّره يقول: يا صديقي إن الحياة بسيطة و رخيصة لا تساوي مقدار أنملة كما يشرحه لنا كل جمعة موظف شؤون لا ندري من تكون؟! ...

و تقول له : أنا لم أسألك عن ثمنها و مهرنا ، فذاك تقدير لسنا متوافقين به بل أسألك عنها هي نفسها.

و يقول المسكين و قد بدأ يجتهد في صيغ الإجابة والبحث عن الردّ بتكلف صنعه هو لنفسه، من دون أن تطلبه منه.

 إن تفسيرها و شرحها ليس بالأمر الهيّن، فهي متغيرة تغيّر الفصول و الشّهور و هي ليست على رتابة في تسلسلها فقد يأتي يوما تحسبه دهرا ، و قد يمرّ شهر تحسب يوما.. .

و أستوقفه لإني أرى أن صاحبنا قفز من حول السؤال و أقول له :

أنت يا صديقي تتناقض في قولك و تفسيرك ، فهل بك قناعة أن الكلام كيف ما كان ليس به موازين ضبط عند المستمع إليك ، و أنت تجرّ عليه بمنطق لم يتعوّد سماعه...

و يردّ عليّ قائلا: إن ما أردت أن أوصله إلى فهمك أنني أسمعك تصوّري و نظرتي و ليس المعنى المتداول بيننا... .

و هنا أزيد من سرعة التقاطي لكلماته و أنا أسمع كلمتي تصوّر و نظرة، و يروح في التحوّل إلى مفاهيم لم أجد لها مكانا بين تصوّره و نظره، و هو يذكر الحياة بكل همومها وينسى أنه سببا فيها... .

و أنا على إنصات و تمعّن لكل كلمة يستدرج خروجها من فمه ، محركا تارة رأسي و مقطبا طورا جبيني و موزعا للحظة ابتسامتي ، فيزيد من رتابة انفعاله و إسداله لما يحمل من تجارب قد استفاد منها خلال حياته ...

و أنا على تلك الحالة صامتا متنبها لكثرة أخطائه و هو يروح يقلّب صفحات من تاريخه الخاص به . و كيف أنه شرب حلوّ العسل و أرتشف مرّ الحنظل . و أزال جبالا و رشّح بحارا ...

و ينتبه إلى نفسه و هو يراني صامتا منصتا لا أعقب بكلام، تاركا له المجال في الحديث عما هو مباح و ما هو غير مباح، و يتوقف بعد أن جال كل موقع و صال كل ميدان، و يسألني و كأنه يريد تأكيدا لما قاله.

هل تعلم أن هذا الذي هو أمامك له من التجارب الحياتيّة الكثير ؟ ولكن لسوء حظ و طالع بات لا يتذكّر إلاّ القليل و العيب ليس عيبه، بل العيب عيب الوسط الذي يعيش به و هو على هذا المنوال يبقى شيئا لا يعرف له حال أن يحرص كل الحرص على ان يكون نافعا رافدا لكل ما به من مواهب يقدّمها إلى شباب مجتمعه بلا مقابل .

و أعرف أن صاحبي و محدّثي بات على فقر في الذاكرة و هو يكرّر الكلمة لعشرات المرّات لا يضع لها مرادفا و لا مؤانسا ، و أرى أن ساعة الحسم قد آتى وقتها و قد سجلت ذاكرتي ما رواه و فحص ذهني زبدة قوله، فأبتسم له ابتسامة لباقة كان واجبا علي إهداءها و أقول و أنا على ثقة موازنا بين كلماتي حتى لا أقع في سرد عديم الجدوى.

يا محدّثي هل أنت متأكدا من قولك، و قد ذكرت لي ما ذكرت من الكلام من غير قناعة و دليل.  

و يردّ المسكين عن سؤالي قائلا: و هل كل ما تفوهت به ليس به قناعة و دليل... ؟

و أرد عليه ببرودة أعصاب : نعم ذلك ما أستنتجه من كل كلامك ، و أنا إن أخطأت في حقّك ، فما عليك إلاّ أن تواجهني بما يقنع و يثير بي قبول لطرحك و أنت قد أتيت من كل حقل بزهرة. و أقول إنّ زميلي أتى ببرهان و قد جاءني بما كان صعبا عليّ إدراكه و هو يحمل إليّ نظرته، فأكون عندها عارفا لا ناكرا، وقابلا لا معاكسا و ينتهي حوارنا إلى نفع نتقاسمه فيما بيننا . و لغوا ابتعدنا عنه بتصحيحنا لكلمات و مفاهيم وضعناها في غير مكانها. و عندها أكون أنا و أنت على تفاهم و تناغم في محاورتنا و نحن قد فتحنا بابا لأنفسنا نحو علم أو ثقافة أو سلوك كان واجبا مّنا أن ندلجه لأن به نرتاح و تطمئن ذواتنا...

و يجيب المسكين وهو لا يدري آبكلا مه قناعة تحرّره من تصاعد بات عليه أن يرتقيه أو هبوط هو آيل به لا محالة و هو يقول :

 إنني استسمح أخي و الناطق بلساني أن التوازن بات مفقودا من حياتنا و نحن نجتهد من غير هدى في بحث لشيئ كان يوم كنّا ندرك أن الحياة صورة مركّبة تحتاج إلى فناّن يستطيع إظهار محاسنها واليوم و قد أصبحت قصاصات أوراق مكدسة عند كل بائع بارع.

و أنا على انتباه لما يقول ، صامتا أحوصل حصائد لفظات قد لا تغنيه في شرح أو معنى لتصوّر متكامل و متناغم بين ما كان يعنيه و ما هو عليه ، و أنا أبحث عن أشياء يخفيها بنفسه و يحرص كل الحرص أن لا يكون أحد منتبه إليها و أساله :

هل لي أن أعرف منك أين يكون الانسان كائنا ذا نفع و إفادة لمجتمع هو واحد منه، يحرص على أن يكون مواظبا لكل واجبات يراها هو و لا يهمه إن الآخرين انتبهوا أو تغاضوا عن فهمها .

فيردّ عليّ و يقول :

إن كنت ترى أن الانسان كائن يحتاج إلى برهان يدلّ به على أنّه هنا، فأنا ليس لي إجابة قد تكون مقنعة لك ، فالأشياء و الأزمان تعطي صور للحياة  لكلّ واحد منّا ما يحتاجه وما لا يحتاجه ولكن لفرط أو عتوّ في النظر، وعدم تنبه تفرّ منّا منافع هي لنا لو عرفنا كيف تكون رعايتها وجنيها .و هي للآخرين إن أنت تسمّرت جاهلا متغافلا .

وأنا أرى به حماسة في الذهاب إلى مناهل هي بعيدة عنّا بحكم الزمان و المكان الذي ألفنا العيش له والترقب لغد باتت بوادره تلوح بشرارها و نحن هنا إلى غاية الوقوف على ردى يحملنا إلى حيث البلاء و الفناء... 

فرحت أستعجل نوادر قد تكون مستنسخة من كتب صفراء أرّخها لنا جهابذة في الفطنة و التصعلك والريّب، فتنتج لنا بهارات تصلح لقدور أعراس برابرة و أعراب و هم على نشوة و بهجة في الضرب على الأرض بأرجلهم ، و أنت تحسب هؤلاء خراف جذلاء أو أغنام ترضع صغارها و هي عند إقتراب حيوانات أليفة منها ، أو آخري تروح تضرب على الأرض بمقدّمة رجلاها و هي تعتقد أن الذي أمامها قد عرف سرّ قوتها و أنّ عليه الانصراف و إلا أخذ من النطحات ما أخذ، و هم هكذا في لهوهم و زهوهم يقلّدون أنعام لهم و لكن لو سألتهم لم تفعلون هذا...؟  فلأحابك أولهم و آخرهم أن هذا تراث ترك لنا ....

 و تقول بينك و بين نفسك ،أي تراث هذا الذي لا نراه إلاّ في رقصات بها حركة البطون بعد أن علفت سميد قمح و شعير أثقلت به أجسامها فراحت تضاعف من حركاتها ، فتلك رياضة تذهب الخمول و تسرّع من هضم دسوم و لحوم نهشتها منذ لحظة .

و هي تبارك لهذا المفدّى الذي أطعم الأقوام و بدّد و بذرّ أموالا ، و قال عنه ضيوفه ، هذا من صنف رعيل حاتم ، فلا كسّرت أسنان من يتوّفه بكلمة لا تمجّد و تشكر المسعى الذي سلكه صاحبنا البربريّ الأعرابي ...

 و قد سجل له التاريخ منذ الأبد تغوّطه و ريح أحشائه و هو يركل الأرض الذي نشأ و ترعرع عليها .