الربيع العربي .. ...؟؟
حين تحاول أن تعزل نفسك قليلا عن الاحداث التي تجري حولك , فأنت تفشل في أول محاولة لأن الاحداث هي من لا تتخلى عنك , فهي تحاصرك في بيتك وفي الشارع وفي التلفزيون وفي الراديو , تمارس عليك استيطان من نوع فكري لا مفرّ منه , وكل محاولاتك بالهرب ستبوء بالهزيمة المسبقة , لأنك بت جزء لا يتجزأ من هذه الاحداث شئت أم أبيت.فلا أحد يقدر على نزع وطنه من دمه وعقله وروحه , طبعاً إلا تلك القلة القليلة التي تسلخ نفسها وتلبس جلد غير جلدها وتكسوه بالريش كي تغرد خارج السرب , بينما الاكثرية تحاول أن تحافط على بقية ما فيها من حبّ لهذا الوطن , وتحاول أن تستنزف آخر قطرة في زجاجة صبرها كي لا تكسر الزجاجة على رؤوس الاخرين أو على رأسها المسكين في نهاية المطاف.
حين صرخ ذاك الشيخ في تونس لقد هرمنا , توجّ بكلمة منه عنوان هذا الربيع الدموي , ودون أن ندري شعرنا بالهرمّ والتعب والقرف والملل , شعرنا بحاجتنا الى انتفاضة تعيد دورة الحياة الى طبيعتها , شعرنا بحاجتنا الى زلزال يحرك صفائحنا الدموية ويعديها الى مسارها الطبيعي .وفرحنا وهللنا ورقصنا على انغام دويّ سقوط الانظمة العربية الطاغية وهروب بعض الطغاة أو قتل البعض منهم وحبس الاخرين , لكن من حيث لا ندري سقطت الاقنعة عن وجوهنا , وسقط الحياء من أخلاقنا , وسقط الجنين من رحم أمه , وسقطت ورقة التوت عن عورتنا , وسقط الشعب في حمامات الدم. وانقلبت حياتنا الى جحيم لا يطاق , والى حالة من الفزع والخوف وعدم الامان , وأصبح سقوط قذائف الهاون أهون لدينا من سقوط أحدنا في مادة دراسية , وصار وقع الموت لدينا أخفّ وطأ على مسامعنا , والاختطاف مسألة عشق حرام , والفدية حالة اقتصادية يدفع ثمنها بعض الناس ,والاختلاف في الرأي حرب شعواء لا تنتهي إلا بانتهاء أحد الطرفين , والانتقام صار السمة الاساسية في حياتنا وصار عنوانا عريضا لكل من ينتهج أحدى سكّتي القطار الذي لا يتوقف.
فلا يهم اليوم ان كنت معارضاً أم كنت موالي , لا يهم أن كنت مع التدخل الخارجي أو ضد الاملاءات الغربية , لا يهم أن تكون هنا ولا تكون هناك , أو تكون هناك ولا تكون هنا , لم يعد يهم شيء من كل هذا حين خسرنا معركتنا الاساسية وهي معركة الانسان . لقد خسرنا الانسان قبل ان نخسر الوطن , لانك لن تجد حيوانا يدافع عن الوطن , فالحيوان لا يهتم وليس عنده هذا الانتماء وهذه الوطنية للمحافظة على الوطن. وحين انقلب الانسان في معركته الى حيوان , لم يعد يهمه سيل الدماء التي تسيل باسم الله اكبر , ولا مدى الدمار الذي لحق بشوارعنا وبيوتنا ومعاملنا , ولن يهمه عويل امرأة على طفلها أو زوجة على زوجها أو طفل على والديه , ولن يهمه أن يقطع رأساً أو يذبح طفلاً أو يأكل قلب جندي عسكري.
إن المتحوّل إلى الحيوان سيظل طوال عمره حيوان مهما حاول أن يعود الى انسانيته التي خسرها يوما , ونحن اكتشفنا اليوم أننا كنا نعيش في غابة مليئة بالحيوانات التي كانت تتخفى وراء بدلة رسمية أو فستان جميل أو ضحكة بريئة بينما كانوا يمارسون حياتهم الطبيعية معنا وكأنهم من البشر في الوقت الذي كانت فيه مخالبهم تنمو وتطول وأنيابهم تكبر وتزداد حدّة ,في عند أول فرصة سنحت لهم انقضوا على جسد الوطن ينهشون به مثل الكلاب أو الذئاب أو الضباع أو التماسيح , وذلك حسب كل فصيل منهم وطبيعته الحيوانية.