النظام الغامض، يراه البعض كالأفعى
تختلف الأنظمة الاستبدادية العربية في شكلها ومظهرها،
إلا أنها تتفق وتتجانس في جوهرها، فالاستبداد واحد ومصادره مختلفة.
قد يكون النظام
ملكيا، تستولي الأسرة الحاكمة على مقاليد الحكم فلا تترك لجهة ما في نظام الحكم
التصرف في شؤون الرعية إلا بإيعاز منها. وقد يكون النظام جملكيا خاضعا لسلطة
الرئيس وعائلته والموالين له من العسكر والحزب فتمتد قبضته من خلالهم على كلّ
دواليب الحكم، وتتم بعد ذلك السيطرة على أنفاس الشعب. كما قد يكون النظام دون وجه
ظاهر، ولا مسؤول بارز، ولا شخصية كارزماتية يلتف حولها الشعب، تسيّر شؤون الرعية
دون رئيس مسؤول، ولا وزير مسؤول، ولا حاكم في أيّ درجة من درجات السلطة مسؤول عن
حكمه، وذلكم هو النظام الغامض والخطير.
النظام الغامض، يراه البعض
كالأفعى ذات الرؤوس السبعة، كلّها خطيرة وسامة، ويراها البعض الآخر كالمستنقع
الآسن الذي تصعب فيه السباحة إلا لمن أتى المناعة القوية والعضلات المفتولة. يعيش
الشعب تحت أجنحته المتصارعة أحيانا والمتجانسة أحيانا أخرى الآلام والمتاعب، لا
يعرف مسؤولا يخاصمه ولا حاكما يتمرد عليه ولا زعيما يهرع إليه لطلب المساعدة.
الرئيس في ظل هذا النظام شخصية
توافقية، ويفسر المحللون السياسيون الشخصية التوافقية بالتي تطالها أيدي المقررين
وتتحكم فيها إلى حين. رئيس أشبه بالواجهة، يخطب ويقرر، يزور ويدشن، يعيّن وينهي
المهام. يُنتَخب بأكثر من ستين في المئة من أصوات الشعب، وليس تسعا وتسعين بالمئة
كما كان سابقا.
من خصائص هذا النظام أنّ واجهته
لا تقلّ في شيء عمّا هو موجود في النظام الديموقراطي. يُعيِّن حكومة، يُقدِّم
برنامجه إلى البرلمان للمصادقة، ويبدأ العمل وفق الميزانية المخصصة لكل قطاع، ووفق
البرنامج المسطر من طرف الحكومة، ويختلف عنه في تحمل المسؤولية، فالنهب والاختلاس
وإهدار أموال الشعب، ليست من مسؤوليات الحاكم، ولا الرئيس ولا الوزير ولا الوالي
ولا غيرهم. ملفات ضخمة ومتراكمة مكدسة في دهاليز مظلمة تنتظر يوم دخول أحدهم إلى
المعارضة لتتم تصفيته بالدليل والبرهان.
قد تتصادم من حين لآخر رؤوس
النظام فيما بينها، ويمكن مشاهدة نتائج الصدام جليّا من خلال مظاهرات عارمة لقطاع
من الناس، أو سيارات مفخخة في مناطق معينة، أو اضطرابات يليها الحرق والنهب والهدم
من طرف الشباب الغاضب، أو تقاتل بين منطقتين لأسباب مفتعلة..
في ظل هذا النظام الغامض قد
تتحكم مديرية في مصير الأمة، تعيّن الرؤساء، تعزل الوزراء، تنصب الولاة، ترقّي
أفراد الجيش والشرطة في مناصب عليا، لها من الصلاحية وطول اليد ما لا يمتلكه أحد.
ورغم هذه القوة التي تمتلكها إلا أنها لا تجرؤ على محاسبة أحد خوفا من تمرد
الآخرين عليها. لها صلاحية التعيين والعزل، ولا تملك صلاحية المحاسبة والرقابة.
لذلك تجد في هذا النظام عشرات الألاف من المرتشين والمختلسين لأموال الدولة،
الملايين من العمال الذين يتظاهرون بالعمل، الآلاف من السياسيين المنافقين، كلّ
شيء مفبرك ومفتعل.
خطورة هذا النظام تكمن في
الغموض الذي يكتنف سياسته وقضاياه، كلّ الناس مسؤول، وكلهم غير مسؤول. لا تتعجب إن
شاهدت على رأس منظمة نقابية عمالية شيخا في السبعين سنة، ورئيس جمعية أولياء
التلاميذ عازبا منذ ولادته. معدل سن الحكومة يتجاوز السبعين سنة ومعدل سن الأمة لا
يتجاوز الثلاثين سنة. شيوخ أرادوا الخلود على كرسي الحكم.
مرّ على هذا النظام سبعة رؤساء،
(كلهم خضعوا لآلة التشويه، إلا أنّه لم يمس أحدهم بسوء)، وعشرات الحكومات (لم يتم
محاسبة حكومة منها)، ومئات الوزراء، (بعضهم اكتنز المال والذهب من منصبه، ولم
يحاسب أحد منهم). لم يغيّر النظام طريقة عمله، ولم يتأثر بالحراك الشعبي والقلاقل
التي تندلع من حين إلى آخر، هنا وهناك. مظهره من الخارج أشبه بنظام أوروبي
ديموقراطي، حكومة تنصب وحكومة تغادر، رئيس تنتهي عهدته ورئيس تبدأ عهدته، إلا أنّه
من الداخل عصابة تتقاسم الأدوار وتتلاعب بخيرات الأمة ولا رقيب.
متى يزول هذا النظام المتعفن
الذي يعيش أنفاسه الأخيرة؟ لست أدري، وإن كانت كلّ المؤشرات توحي بنهاية قريبة،
نتمنى من الله أن يكون التغيير سلسا دون عنف.