أدب الأختلاف
أعتنق ما شئت من الأفكار ولكن لا يجب أبداً أن تجعل من معتقداتك مهما كانت قوتها سبباً مباشراً أو حتى مبرراً لتلويث وتشويه الآخر .. أختلاف
الرأي أو وجهات النظر يثري ويضاعف فرص النجاح .. وتذكر إن من تختلف معهم ربما هم على صواب. على الرغم من إن الأختلاف طبيعة بشرية أو كما يقال لا يفسد للود قضية ،ومع أنه أيضاً ظاهرة أكثر من
عاديه لكن تبقى علتنا الكبرى الامس واليوم وربما غداً هي أننا لا نعرف أدب الأختلاف ،وحتى من يعرفه لا يلتزم به ولا بقواعده يكفي أن تتتبع أي حوار تختلف فيه وجهات النظر بشدة وستجد نفسك إذا ما كنت مجرد مشاهد أمام معركة حقيقية أو خناقة بلدي بين سيدات في حي شعبي ،أما إن كنت أنت طرفاً في هذا الحوار فعليك ان تكون واحد من ثلاثه لا رابع لهم ،فإما أن تكون من اصحاب الصوت العالي فلا يمكن لأحد أن يجاريك في الحديث ، أو ممن يجيدوا السب ويتقنوا الشتائم بأنواعها وأختلاف الفاظها ،أو صاحب لغة تهكمية وحرفية عالية في السخرية وصناعة الكوميديا السوداء المغرضة ،فإذا كنت تملك واحدة من تلك المواهب فأهلاً بك في زمن الديمقراطية الحديثة أو المستحدثة. انفعالات وضجيج وصراخ عالي هو كل ماتبقى لنا من أشكال الحوار في تلك المرحلة الأنتقالية ( الأنتقامية ) الهامة ناهيك عن أنواع السب والتخوين التصاعدي لنصل أحياناً لأخطر المراحل الصدامية وما فيها من إهدار للروح واراقة الدماء.
المناقشات البيزنطية السائده الآن وترديد العبارات الفلسفية الفارغة من أي معاني حقيقية هي أكبر وأخطر علامة من علامات التخلف التي صرنا نطرق ابوابه بشده لاسيما إذا أضفنا لتلك العبارات روح التشفي وشهوة الأنتقام وحب السيطرة. وفي هذا الجو الخانق للعدالة والطارد للحق لا تتعجب كثيراً إذا ما أدين مظلوماً وتم تكريم ظالماً. الحقيقة إن الثورة التي أنتظرناها طويلاً وأستشهد فيها أبطالاً خلقت في المقابل نماذج لم نعرفها جيداً من قبل ،وأفرزت لنا وجوه ربما نكون قد رأينها مراراً ولكنها كانت عليها أقنعة تمنعنا من رؤية حقيقتها ،نماذج لا تهتم بمصالح الناس ولا ترى سوى مصالحها بعد أن أجادت في صبغ تلك المصالح بصبغة ثورية وعبارات وطنية لا يختلف عليها أحد .
وضعت هذه النخبة الجديدة تعريف آخر للمصالح الوطنية يتماشى مع صياغتها الشخصية ورؤيتها الذاتية للأحداث ،جدل عقيم هنا وهناك في صورة حوارات نارية والمحصلة النهائية ليست أكثر من بضعة مفردات لغوية انضمت لحصيلة مفرادتنا اليومية تلك التي عرفناها مؤخراً بعد الثورة مثل حزب الكنبة والفلول فالآن صار منتشراً لدينا وبنجاح لفظ الأخونه والأسلمة . ضياع لغة الحوار والخلل القائم في صور التخاطب الذي عرف طريقه وسطنا بل وأستقر بأريحية بيننا ،هو لم يكن كما يردد المغرضون نتاج ثورة وأنما كان منهجاً عميقاً نسير عليه عقوداً طويلة من الزمان والفارق الوحيد إنه في الماضي كانت تتدخل أجهزة أمن الدولة لضبط الأيقاع النشاز أما الآن فالكل يعزف على نوتتة الخاصه .
المنظومة المتهالكة الفاسدة التي رحلت لم نرث منها إلا كل ماهو فاسد ومتآكل ولن يصلح هذا الخلل والعطب فصيل واحد مهما كانت قوته،كلنا يجب أن نحمل سوياً خطايا الماضي لنصحح إخفقاته وإخفقاتنا . الوطن المطحون يعاني وبشدة ،والنخبة الحمقاء تتقاتل على من يتصدر المسيرة من يفوز بالغنيمة ،منهم من تحول ومنهم من تلون ومنهم من يستأسد الآن ليلعق جراح الوطن لعله يصبح بطل . المعادن النبيلة لا تصدأ ولا تتغير وابداً لا يمكن أن تتحول للنقيض ،فمهما تعرضت للضغوط والصدمات يبقى الذهب ذهباً والفضة فضة.
في المقابل هناك انماط ونماذج بشرية تتدعي المثالية وهي أرخص من أن يكون لها سعر لذا فهي تتلون وتتغير حسب سعر السوق. لأننا شعب يقال عنه أنه خفيف الظل (والعهده على من قالها) فقد صار التهكم هو لغة الحوار الرسمية ،وأصبحت السخرية اللاذعة من اكثر الأدوات أنتشاراً للتعبير عن أي فكرة ،عن أي رأي ،عن أي شيئ سواء كان رفضاً أو تأييداً ،وإن تسخر بشدة ممن يخالفك في الرأي وتصفه بصفات مضحكة أو مهينه تصل للأزدراء فقد اصبحت تتماشى بحرفيه عالية مع لغة العصر . فقهاؤنا وخبراؤنا الذين صرت تراهم في كل مكان من القنوات الفضائية حتى المقاهي الشعبية الكل يسارع للفوز بلقب ناشط سياسي بينما لم تتفق غالبيتهم على شكل الحلول الأيجابية وأكتفوا بكل ماهو سلبي ،وساهموا بقصد أو بغير قصد في زيادة جرعة الأحباط ،ورسم بسمة صفراء أو سوداء .
هل لأننا نعاني من أكتئاب مزمن صرنا نبتسم ونشجع أي عبث أو كما يقولوا (أستظراف) حتى ولو كان خروجاً صريحاً عن النص وضد أبسط قواعد الأدب !؟ وهل إكتئابنا سبب كاف لنستقبل أي تتطاول وعدم أحترام بأبتسامة بلهاء دون النظر لعواقب الأمور وما تفعله تلك الرسائل التي تدس في العسل سماً وتلعب بعقول البسطاء وافكارهم .. !؟. أبطال الثورة الحقيقية وشرارتها هم جموع الشباب التي لا نعرف أسماء اغلبهم ولم يتبق منهم سوى ملامحهم المحفورة بأتقان في أذهان من كان في الميدان . هؤلاء لن ولم تراهم في البرامج الحوارية . في المقابل هناك أشخاص مشهورة عرفوا المعارضة منذ زمن طويل وحين أتقنوها وأجادوها أحترفوها فصارت من سمات حياتهم وبعد أن تلاشت رقابة الدولة وأمنها أنضم لهم من لا عمل له حتى أصبحت وظيفة معروفه تضاف بكل فخر لخانة العمل في سجلاتهم الشخصية وسيرتهم الذاتية . بأختصار شديد هناك مخلوقات غريبة لا تنمو ولا تتكاثر إلا عكس النظام (أي نظام ).
أدب الأختلاف لايعني مهادنة الخونة ولا ينطبق على فئة نعرفها جميعاً لم تكن يوماً تحب الوطن ،وهي الآن تملأ الدنيا ضجيجاً ،تلك الفئة زادت لمعاناً مؤخراً وأرتفع صوتها وصياحها وذاع صيتها ،وكل ما يحملوه من مؤهلات ثورية هو عدائهم للنظام السابق ، هؤلاء هم أساتذة الفتنة اليوم .وإلى هذا الفصيل تحديداً يقول العقلاء خذوا حذركم فلم يكن بينهم وطني واحد بحق وليسوا ملائكة ،فمنهم من كان يعارض لغرض ما ،ومنهم من كان ومازال غارقاً في مصالحه الشخصية ،ومنهم أساتذة التآمر على الوطن ،وأخيراً هناك من امتهن المعارضة سبيلاً للمعيشة ولم يعد أمامه وسيلة للرزق غيرها ،وإلي تلك الأصناف جميعاً و تحديدا نقول لم نكن يوما في خندق واحد وكنا نرفضكم من قبل وبشده وما زلنا إلى الآن نرفضكم ونكره وبحق وجودكم. أعداء الوطن الآن لا يتحسسوا خطاهم خلفه ليطعنوه في الظهر كما هو معروف عنهم في الماضي ، أصبحوا اليوم بداخله في صميم قلبه هم من أعز أبنائه أو من بعض رجاله الذين يتقاضون مرتباتهم الباهظة لحمايته .
هناك فئات بعضها عشوائي وبعضها مدرب ومنظم تعمل على إفشاء روح التآمر والوقيعة والأنقسام وفئات تتبعهم بلا علم ،وأول علامات الفتنة أن تشيروتوجه أصابع الأتهام لغير موضعها فيصبح المجرم بطلاً وينفجر البرئ غضباً ، وحين تختلط الخيانة بالشرف وتختبأ الأولى وراء الثانية يصعب على الأذكياء كشفهم فما بالك بالبسطاء. نحن في وقت ظهر فيه ادعياء الفحولة والرجولة و كل أنواع البطولة. وقت القنوات المفتوحه والعلاقات المسموح لها والمشبوهة ،ومحاولات وعبارات تسعى جاهدة أن تصنع جرحاً آخر في بلد هي من زمن مجروحة. ووقت أن تتشابك المصلحة العامه مع أسوأ علامات النرجسية والمصلحة الشخصية وأغراض ليس بها ذرة وطنية ،وقتها نكون أمام سيولاً من التلميحات والتي سرعان ما تنسج حولها القصص وتتردد الشائعات لتصبح بين العامة حقائق شبه مؤكدة وتضيع في الجلبة أصوات العقلاء ومن يطالبوا هؤلاء بأن يرفعوا أياديهم عن الوطن . مرة أخرى نقول أعتنق ما شئت من أفكار تمسك بها دافع عنها لكن ما تعتقده ليس مبرراً كافياً لمحاولة الكسب الرخيص لاسيما إن كان الخاسر هو الوطن. "أحياناً في وقت الأزمات نصنع من خصوماتنا نفق مظلم نختصر به كل المسافات تلك التي أجتهدنا طويلاً من قبل حتى قطعناها ..(في الماضي حتى أجتزناها) بحثاً عن التقارب. الآن نحن نتفق قليلاً ونختلف ونحتد كثيراً .. نبحث في الآخر عن عيباً أو تقصيراً.. فإن عز علينا لا مانع أن نختلقه طالما سنجد لغضبنا تفسيراً".