الممسوخين على
الشبكة؟
دخول شبكات التواصل الاجتماعي على ساحة
الإعلام غيّرت كثيرًا من المسلّمات، فلم يعُد الإعلام محتكرًا من قبل رؤوس الأموال
وأصحاب الأجندات الخاصة، وتم فتح الباب للجميع للتعبير عن آرائهم وأفكارهم بالطرق التي
يريدونها وبالأسلوب الذي يريدونه.
لكن شبكات التواصل الاجتماعي لم تسلم من
الاختراق الممنهج لرؤوس الأموال للتأثير على الرأي العام، ولم تسلم من سطحيّة بعض مستخدميها
الذين ينقلون ما يسمعون ويشاهدون عن اليمين والشمال دون أدنى تدقيق وتفكير وتحقيق،
فتصبح الروايات والأخبار المفبركة والكاذبة حقيقة تُبنى عليها الآراء والمعتقدات.
بعض "الممسوخين" الذين ينقلون
كلّ ما يعجبهم يفعلون ذلك من باب السطحيّة، فمن الأسهل تصديق ما تشاء والترويج له لأنه
يناسبك. البعض الآخر متزمّت فكريًا، عقديًا وحزبيًا ويفعل ما يفعل وفق ما تقتضيه الخلفيّة،
لأنّه "على حقّ" ولا بدّ من أن تكون كلّ الشائعات التي تطعن في خصومه الفكريّين،
العقديّين والحزبيّين "صحيحة".
من جهة أخرى فإنّ للإعلام أبواقًا كثيرة
على شبكات التواصل الاجتماعيّ، تساهم في صناعة الرأي العام وفق أجندة المموّلين لهذا
الإعلام وإعلاميّيه، بالتالي فإنّ خطورة التضليل التي تكمُن في الإعلام انتقلت إلى
شبكات التواصل الاجتماعي بشكل مباشر.
حثّني على الكتابة حول هذا الموضوع ما شاهدته
من أحداث طائفيّة مؤسفة في مصر هذا الأسبوع، ومن تزوير الحقائق الذي يجري على قدم وساق
محليًا وعالميًا، فقد امتلأت الدنيا بعناوين تتهم المسلمين (كالعادة) بشكل مباشر بالأحداث،
منها عدّة صحف بريطانيّة كالإندبندنت. وللتوضيح فإنّ ليس المراد هنا اتهام أتباع دين
معيّن بإثارة المشاكل، فالمسألة معقدة أكثر بكثير، إنّما لا بدّ من وضع النقاط على
الحروف بكلّ ما يخصّ المتطرّفين والإرهابيّين ومثيري الفتن، وكشف حجم ومدى تطرّفهم
وخطورته، قبل التعاطف مع أيّ جهة على حساب جهة أخرى.
لقد بدأت الأحداث في مدينة الخصوص عندما
رسم صبية صليبًا معكوفًا على جدار مسجد، وبعدما طلب منهم شيخ إزالة الرسم، تطوّر الحدث
إلى نزول بعض الشبان من الكنيسة المجاورة بالأسلحة حيث أطلقوا الرصاص الحيّ على فتى
مسلم وقتلوه، كما أطلقوا النار بشكل عشوائي من داخل الكنيسة على المارّة. تطوّرت الأحداث
وتمّ قتل متبادل وبلغ عدد الإصابات أكثر من 80 إصابة. اتهم بعض أهالي القرية عائلة
"اسكندر" المسيحيّة، المرتبطة بأمريكا وإسرائيل (تمت صفقات أسلحة بين إسرائيل
والكنيسة المصريّة في السابق، وغلاة الأقباط ينشطون من أمريكا) وفق قولهم والتي جاءت
من الخارج بإثارة الفتن، حيث ركز الجانبان المسلم والمسيحي على السلم الأهلي التاريخي
بين المواطنين وعلى أنّه لن تتغيّر العلاقة بين الجانبين إثر هذه الأحداث. حتى أنّ
صديق أحد المصابين المسلمين كان مسيحيًا جاء ليساعده عند إطلاق النار عليه، فتمّ إطلاق
النار عليه كذلك، وكان معه عند علاجه معتبرًا إيّاه أخًا وجارًا.
تطوّر المشهد عند تشييع قتلى المسيحيّين
في الكاتدرائيّة المرقسيّة بالعبّاسية، وبدأ جموع المشيّعين بترديد هتافات ضدّ المرشد
والإخوان، وقام بعض القساوسة بتحميسهم أكثر (بعض وسائل الإعلام قالت إنّهم "يهدّؤون
الجمهور"!!). حدثت بعد ذلك مناوشات بينهم وبين الأمن، وتم استخدام الأسلحة الناريّة
من داخل الكاتدرائيّة هذه المرّة ومن أعلى أسطحها، شملت الرصاص الحي والمولوتوف والخرطوش
بشهادة الرائد محمد طارق وهو أحد المسؤولين الأمنيّين في منطقة الكاتدرائيّة، وهو اعتراف
خطير كونه يشكّل دليلاً فاضحًا مع أشرطة الفيديو على وجود أسلحة داخل الكنائس المصريّة.
كما اعترف ذات المسؤول بوجود "أمن خاص" للكاتدرائيّة وليس للأمن العام
"دخل" بما يجري بداخلها وأن ذلك يجري بالتنسيق مع وزير الداخليّة!
هذه ليست المرّة الأولى التي تظهر فيها
فضائح وجرائم الكنيسة المصريّة. ففي عام 2010 تم اعتقال جوزيف بطرس الجبلاوي، نجل وكيل
مطرانية بورسعيد، بعد ضبط سفينة يملكها وعلى متنها مئات الأطنان (!) من المتفجرات من
إسرائيل، ومنذ عام 2003 وبعدها احتجزت الكنيسة المصرية وفاء قسطنطين وكاميليا شحاتة
اللتان اعتنقتا الإسلام بعدما سلمتهما الدولة حينها للكنيسة، في انتهاك فاضح لسيادة
الدولة والقانون.
قبل عدّة أشهر تمّ حصار أحد أعرق المساجد
في الإسكندرية "القائد إبراهيم" بعد صلاة الجمعة لمدّة 14 ساعة وفيه الشيخ
المعروف المحلاوي و150 من المصلّين، حينها رفض الشيخ مجيء أنصار التيّارات الإسلاميّة
لفك الحصار بعد تواطؤ أجهزة الأمن، لعدم سفك الدماء، وقال حينها إن الحادث كان مدبرًا
والتحقيقات أشارت إلى أنّ بعض المتهمين كانوا على صلة بجهات سياسيّة معارضة.
في الحالة الأولى اتهمت وسائل الإعلام الجميع
عدا المتطرّفين المسلّحين داخل الكنائس، وفي الحالة الثانية اتهمت المحاصَرين الذين
رفضوا الانجرار وراء مخططات الفتن، والتضليل انتقل بالطبع إلى شبكات التواصل الاجتماعي
حيث استمرّ المضَلّلون بالتعاطف مع المخرّبين واتهام من لا صلة لهم بالحادث.
أي أنّه حين يتعلّق الأمر بالإسلام والمسلمين
ولا يوجد أيّ نوع من العنف والإرهاب من قبلهم، يتمّ خلق الإرهاب من العدم واتهامهم
به، وتسمع عن "ميليشيات إخوانيّة" وما شابه. أمّا حينما تكون هناك مجموعات
مسلّحة داخل أكثر من كنيسة بتواطؤ من رجال دين مسيحيّين متطرّفين وقوى محليّة وعالميّة
بشهادات ووثائق، تتجاهلها معظم وسائل الإعلام وتقوم بالدفاع عنها وعن أعمالها التخريبيّة
الإرهابيّة، وتتهم المسلمين بالأحداث. فلم نسمع عن "ملثّمي الكنيسة" أو عن
"ميليشيات البابا" (الحقيقيّة في هذا الحال)، إنّما نسمع صوت العلمانيّين
الذين يدعمونهم ويدافعون عنهم.
إنّه قلب الحقائق والتضليل الذي عبر كلّ
الحدود، والمصيبة أنّه يمرّ بدون ردّ فعل مناسب من قبل المسؤولين في مصر وعلى رأسهم
الرئيس محمّد مرسي وحكومته إزاء هذا الانفلات والتخريب الذي يجب لجمه ولجم أهله، ومع
الانسياق الأعمى من قبل الجمهور لوسائل الإعلام الحاقدة على الإسلام.
إنّ من واجبنا صناعة عقليّة ونمط تفكير
جديدَين مبنيّين على اتباع الحجّة والبرهان وعدم الانسياق كالخرفان، خاصّة إزاء التحدّيات
التي نواجهها اليوم. فمجرّد تصديق الكذب هو مشاركة فعّالة في التضليل الذي يتمّ بشكل
أكبر ممّا يتصوّره معظمنا هذه الأيّام. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً
ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (الأنفال:
36).