لا ديمقراطية في وجود الدين
المعروف هو أن المعرفة الإنسانية هي نتيجة تراكمية
للتجربة الإنسانية ، أي إنها حصيلة تجارب الإنسان وجهوده الفردية ، والجماعية في
التعلم ، والإكتشاف ، ومحاولاته المستمرة لتحسين وضعه الحياتي ، وحل مشاكله ،
ومعرفة العالم من حوله. هذه الجهود الإنسانية أحدثت تغييرات عقليه ، ومعيشية ،
واجتماعية هائلة مكنت الجنس البشري من التقدم والارتقاء التدريجي ، حتى وصل إلى ما
هو عليه الآن من معارف وعلوم حديثه ، خلقت وضعا حضاريا جديدا ، وأوجدت عالما
متطورا علميا ، وثقافيا ، واجتماعيا ، وفنيا لم يطور الإنسان مثيلا له منذ فجر التاريخ.
عالمنا الحديث ، وخاصة في هذا
القرن ، قائم على العلم والثقافه ، واحترام الإنسان وحقوقه. الأمم التي شجعت
الإبداع المعرفي في كل مجالاته ، وأقامت أنظمة ديمقراطية علمانية فصلت الدين عن
الدولة ، وتبنت دساتير دائمه تحدد الحقوق والواجبات السياسية للشعب والدولة ،
وفصلت السلطات الثلاثة ، التنفيذية لتقود الدوله ، والتشريعية لتضع القوانين
وتراقب أداء الدولة ، والقضائية لتحكم بين الناس بالعدل وتحل مشاكلهم طبقا لقوانين
الدولة. هذه الدول تمكنت من بناء مجتمعات صناعية ، ومنتجة ، ومثقفه ، ومبدعه ،
وطورت الخدمات كالبنية التحتية ، والتعليم ، والصحة ، والإدارة.
لقد أصبحت هذه الدول دول مؤسسات
هدفها إقامة العدل بين الناس ، واحترام الإنسان ، والاعتراف بالتعددية الدينية
والعرقية ، وحماية المواطنين ، وإعطائهم الفرص للرقي ، والتقدم دون اعتبار
لاختلافاتهم الدينيه أو العرقيه ، لأنهم مواطنون متساوون أمام القانون في حقوقهم
وواجباتهم.
الأمثلة على هذه الأنظمه التي
غيرت مجرى تاريخ البشريه بإنجازاتها تشمل جميع الدول الديمقراطية الصناعية ومنها
دول غرب أوروبا ، واليابان ، والولايات المتحده ، وأستراليا ، وكندا الخ. وهي بلا
شك الأكثر تقدما وازدهارا في العالم. حتى بداية عصر النهضه الأوروبية ، كان الدين
وتفسيره للكون والحياه مقبولا على نطاق واسع لأن تفكير الإنسان كان محدودا ،
والأفكار التي كانت متداوله كحقائق لتجيب على تساؤلات الإنسان المتعلقه بأصل الكون
، ومكوناته ، والحياه ، والموت ، وما بعد الموت ، كانت غيبية ومبنية على إجتهادات
فلسفية أو تفسيرية للديانات نفسها. كان الدين يفسر كل شيء ، ويضع أسسا وضوابط
لعلاقات البشر وقيم المجتمع.
لا شك أنه لا يمكن إنكار الدور
الإيجابي للدين في تنظيم الحياة البشريه والعلاقات الإنسانية. الديانات كلها نصت على
الصدق ، والحب ، والتآخي الإنساني ، والرحمه ، وعمل الخير ، واحترام الكبير. لكنها
ناقضت هذه النصوص في تعاليمها لأنها حصرت معظم هذه القيم لمن أتبعها ، واعتبرت
الديانات الأخرى هرطقة وأنكرت وجودها ، ومصداقيتها ، وحثت على رفضها. هذا التناقض
في الأفكار الدينية شجع الصراعات ، والخلافات ، والحروب ، والكراهية بين الأديان
وبين أتباعها واستمر ذلك بشكل أو بآخر حتى يومنا هذا.
تاريخ أوروبا حتى العصور الوسطى
يثبت بأن الدولة الدينية الأوروبية كانت فاشلة لأنها قامت على عبادة الفرد ،
والإقطاع ، والظلم ، وتحكم الكنيسه في شؤون الناس وخداعهم ، وابتزازهم ، والسيطرة
عليهم وعلى مقدراتهم بإسم الدين ، والقدر الإلهي ، وتقسيم الله لإرزاقهم ، وتحديده
لمصيرهم في الدنيا والآخره. هذه الفرضيات والممارسات الدينية أعاقت قدرة الإنسان
على التفكير الحر ، والإبداع ، والتغيير لفترة زمنية إمتدت قرونا عدة وبدأت تنهار
بظهور الحركات الفكرية التي نشطت في عصر النهضة وأدت إلى قيام ديمقراطيات وبخاصة
خلال عصر التنوير الأوروبي. لقد انتهى عصر الدولة الدينية وحل مكانه عصر دولة
الإنسان الديمقراطية.
إن الدول التي فشلت ، أو لم
تحاول أن تفصل الدين عن الدوله ، وتقيم ديموقراطيات تقودها أحزاب سياسية فاعلة ،
ومؤسسات مجتمع مدني منظمة ، ما زالت متخلفه وتعاني من مشاكل لا حصر لها ، وتواجه
حروبا وانشقاقات قد تؤدي إلى تفككها وربما اندثارها. العالم العربي يعتبر مثالا
حيا على ذلك. إن إزدياد التدين وربطه بكل شأن من شؤون الناس المجتمع ، خاصة في
الأربعين سنة الماضيه ، أدى إلى زيادة العصبيات ، والنعرات الدينية ، والطائفية
وقاد إلى حروب مدمرة في العراق ، وسوريا ، وليبيا ، واليمن ، ومصر ، والسودان ،
والحبل على الجرار.
هذه الحروب يستغلها السياسيون
لمصالحهم ويدعمهم في ذلك رجال الدين المتنفذين في كل قطر عربي. إنها حروب الظلم ،
والجهل ، والتخلف التي ستؤدي حتما إلى المزيد من حمامات الدم ، والفقر ، والدمار ،
والانحطاط الإجتماعي. الأوطان هي للمواطنين جميعا بالتساوي وليست للأديان. الأديان
جزء من ثقافات الأمم وتاريخها.
ولهذا فإن الوطن العربي لا يمكن
أن يزدهر ويتقدم ، إلا بإقامة ديمقراطيات حقيقيه تفصل الدين عن الدولة حيث يقتصر
دور الدين على العلاقه بين الإنسان وربه ، وعلى احترام التعدديه بين مكونات
المجتمع ، ولا يتدخل في السياسة والشؤون الهامة الأخرى كالقانون ، والإقتصاد ،
والعلوم ، والإداره ، ويترك الباب مفتوحا للفكر الحر ، والإبداع في العلوم ،
والفنون ، والآداب ، والدراسات الإجتماعيه. عندئذن من الممكن أن يتغير عالمنا
العربي وتزداد فرصنا في الوحده ، وحل مشاكلنا ، والتفاعل مع العالم ، والتأثير فيه
والتأثر به